الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ في حكم الاجتهاد ] :

                                                                                                                                            وأما الفصل الرابع في حكم الاجتهاد فليس يخلو حال حكم المجتهد فيه من أن تتفق عليه أقاويل المجتهدين أو تختلف .

                                                                                                                                            فإن اتفقت عليه أقاويلهم صار إجماعا تعين فيه الحق وسقط فيه الاجتهاد من بعده كسقوط الاجتهاد مع نصوص الكتاب والسنة لأن الإجماع حجة قاطعة بعد الكتاب أو السنة .

                                                                                                                                            وإن اختلفت فيه أقاويل المجتهدين فهو على ضربين :

                                                                                                                                            [ ص: 128 ] أحدهما : أن يكون الاختلاف في أصول التوحيد وصفات الذات ، فالحق فيها واحد وهو الذي كلف العباد طلبه ، وما عداه باطل فمن أصابه فقد أصاب عند الله وأصاب في الحق ومن أخطأه فقد أخطأ عند الله وأخطأ في الحق . وهذا قول جمهور الفقهاء والمتكلمين .

                                                                                                                                            وشذ عنهم عبيد الله بن الحسن العنبري فجعل كل مجتهد مصيبا في الأصول والفروع .

                                                                                                                                            والجمع بينهما خطأ فاحش ، لأن أصول التوحيد وصفات الذات لا تختلف فلم يصح تجويز الاختلاف فيها ، وأحكام الشرع قد تختلف بحسب المصالح في الأعيان والأزمان فجاز أن يكون الخلاف مسوغا فيها .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : من اختلاف المجتهدين : أن يكون في الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات كاختلاف الصحابة في أحكام الصلاة والزكاة والصيام وفي مقاسمة الإخوة للجد وفي توريث الجدة وابنها حي وفيمن قال لامرأته : أنت علي حرام وما أشبه ذلك .

                                                                                                                                            فقد اختلف الفقهاء والمتكلمون في هذا الاختلاف :

                                                                                                                                            فذهب أكثر المتكلمين إلى أن الحق في جميعها ، وأن كل مجتهد فيها مصيب عند الله ومصيب في الحكم : لأن جواز اختلاف الجميع دليل على صحة الجميع .

                                                                                                                                            وذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحدها وإن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين : لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالا وحراما : لأن ما حل لشخص في حال لم يكن حراما عليه في تلك الحالة لتنافيه وتناقضه ، ولأن المختلفين في اجتهادهم في القبلة إلى أربع جهات لا يدل على أن القبلة في الجهات الأربع .

                                                                                                                                            وإذا ثبت أن الحق في أحدها وإن لم يتعين فقد اختلف الفقهاء : هل كل مجتهد فيها مصيب أم لا .

                                                                                                                                            فمذهب الشافعي وما ظهر منه في أكثر كتبه أن المصيب منها واحد ، وإن لم يتعين وإن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد ، فمن أصاب الحق فقد أصاب عند الله وأصاب في الحكم ، ومن أخطأ الحق فقد أخطأ عند الله ، وأخطأ في الحكم .

                                                                                                                                            وهذا مذهب مالك : لأن الحق لما كان في واحد لم يكن المصيب إلا واحدا .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف وطائفة من أهل العراق : كل مجتهد مصيب وإن كان الحق في [ ص: 129 ] واحد فمن أصابه فقد أصاب عند الله وأصاب في الحكم . ومن أخطأه فقد أخطأ عند الله وأصاب في الحكم .

                                                                                                                                            وقد حكى هذا القول عن الشافعي بعض أصحابه ، لأن له في وجوب القضاء على من تيقن الخطأ في القبلة قولين فمنهم من أثبته وخرجه قولا ثانيا ، ومنهم من أنكره . وقيل : إن مذهب أبي حنيفة في هذا مختلف فيجعل في بعض المسائل كل مجتهد مصيبا ، وإن كان الحق في واحد كقول أبي يوسف ، ويجعل في بعض المسائل كل مجتهد مخطئا إلا واحدا ، لأن الحق واحد كقولنا .

                                                                                                                                            ولو كان كل مجتهد مصيبا ما أخطأ مجتهد ، وقد نسب الله تعالى نبيه داود إلى الخطأ وسليمان إلى الإصابة بقوله تعالى : ففهمناها سليمان وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر " فنسبه إلى الخطأ وإن جعل له أجرا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلو اختلفا في الإصابة لما شورك بينهما في الأجر .

                                                                                                                                            قيل : ولو اتفقا في الإصابة لما فوضل بينهما في الأجر .

                                                                                                                                            وقد خطأ الصحابة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه : فقال ابن عباس : " ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا " وقال في العول " من شاء باهلته عند الحجر الأسود ، والذي أحصى رمل عالج عدا ما جعل الله في المال نصفين وثلثا ، هذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين الثلث " وقال علي لعمر في المجهضة حين قال له عثمان وعبد الرحمن : لا شيء عليك إنما أنت معلم فقال له علي : إن كانا ما اجتهدا فقد غشا وإن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ فعليك الدية فلم ينكروا خطأ المجتهد .

                                                                                                                                            فإن قيل : لما استجازوا أن يولوا من خالفهم في الاجتهاد دل على أن كل مجتهد مصيب ، ولو كان مخطئا لما استجازوا تولية مخالف ، قيل قد أنكر علي على شريح حين خالفه في ابني عم أحدهما أخ لأم ، وقال : علي بالعبد الأبطر وعزله عن القضاء .

                                                                                                                                            على أن نفوذ الاجتهاد عين الحكم ، وقد يجوز أن يتفقا عليه وقت الحكم .

                                                                                                                                            ولأن تصويب كل المجتهدين يؤدي إلى تصويب من نفى تصويب المجتهدين فصار ما ذهب إليه من التصويب راجعا عليه في إبطال التصويب . فإذا صح أن جميعهم مخطئ في الاجتهاد إلا واحدا هو المصيب منهم وإن كان غير متعين فالمصيب منهم مأجور على الاجتهاد وعلى الصواب ، وأما المخطئ فغير مأجور على الخطأ .

                                                                                                                                            واختلف في أجره على الاجتهاد :

                                                                                                                                            فمذهب الشافعي أنه مأجور عليه وإن أخطأ فيه لقصد الصواب وإن لم يظفر به .

                                                                                                                                            وقال الأصم وابن علية هو مأثوم على الاجتهاد لخطئه فيه .

                                                                                                                                            [ ص: 130 ] وقالت طائفة من أهل العراق : ليس بمأجور عليه ولا مأثوم فيه .

                                                                                                                                            ودليلنا قول النبي عليه السلام : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " .

                                                                                                                                            وكان شيخنا أبو القاسم الصيمري لأجل هذا يقول : إن كل مجتهد مصيب في أنه أدى ما كلف من الاجتهاد ، مخطئ للحكم الذي أراده الله تعالى إلا واحدا . وليس هذا بصحيح لأنه كلف الاجتهاد المؤدي إلى الصواب ولم يكلف الاجتهاد المؤدي إلى الخطأ ، وإنما استحق الأجر بنيته في طلب الحق وبما تكلفه من الاجتهاد الذي اعتقد أنه حق وإن لم يكن بحق .

                                                                                                                                            وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " نية المرء من خير من عمله " .

                                                                                                                                            وفيه ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أن نيته في الاجتهاد خير من خطئه في الاجتهاد .

                                                                                                                                            والثاني : يعني أن نيته خير من خيرات عمله .

                                                                                                                                            والثالث : أن النية أوسع من العمل : لأنها تسبق الأقوال والأفعال فيعجل الثواب عليها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية