الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : الخصم الغائب عن بلد القاضي .

                                                                                                                                            وإن كان الخصم المطلوب غائبا عن بلد القاضي : لم يخل أن يكون في عمله ، أو في غير عمله .

                                                                                                                                            فإن كان في غير عمله ، لم يكن له إحضاره ؛ لأنه لا ولاية له عليه .

                                                                                                                                            وجاز له أن يسمع الدعوى والبينة عليه ، ليكاتب به قاضي البلد الذي فيه المطلوب .

                                                                                                                                            وله في مكاتبته حالتان :

                                                                                                                                            إحداهما : أن يكاتبه بسماع البينة ، ليتولى المكتوب إليه الحكم بها على المطلوب ، فهذا جائز عند من يرى القضاء على الغائب وعند من لا يراه .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يحكم بالبينة بعد سماعها ويكاتب القاضي بحكمه ، فهذا جائز عندنا وعند من يرى القضاء على الغائب ، ولا يجوز عند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب .

                                                                                                                                            وعليه في هذا القضاء على الغائب أن لا يحكم له بعد سماع البينة إلا بعد إحلافه بالله إن كان الحق في ذمة : أنه ما قبضه ، ولا شيئا منه ولا برئ إليه منه ولا من شيء منه ، وإن كان الحق في عين قائمة أحلفه أن ملكه عليها باق ما زال عنها ولا عن شيء منها .

                                                                                                                                            [ ص: 304 ] وإنما أحلفه قبل الحكم : لأن المحكوم عليه لو كان حاضرا لجاز أن يدعي ذلك ، فيستحق اليمين ، فلم يكن له إمضاء الحكم مع هذا الاحتمال ، إلا بعد الاحتياط فيه .

                                                                                                                                            وذهب بعض أصحابنا وهو الحسين بن علي الكرابيسي إلى أن القاضي يطالب المحكوم له بكفيل ، لجواز أن يتجدد ما يوجب بطلان الحكم فيؤخذ به الكفيل .

                                                                                                                                            وذهب جمهور أصحابنا وهو قول أكثر الفقهاء إلى أن مطالبته بالكفيل لا تجب لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها كفالة بغير مستحق .

                                                                                                                                            والثاني : أن قضاءه على الغائب كقضائه على الميت والصبي ، وليس يلزم أخذ الكفالة في القضاء عليهما ، كذلك لا تلزم في القضاء على الغائب .

                                                                                                                                            ويشترط القاضي في حكمه على الغائب أنه قد جعله على حق وحجة إن كانت له لئلا يقتضي إطلاق حكمه عليه إبطال حججه وتصرفه .

                                                                                                                                            وإن كان الخصم المطلوب غائبا في إعمال هذا القاضي : لم يخل أن يكون له فيه نائب مرتب للأحكام عموما أو خصوصا .

                                                                                                                                            فإن كان له نائب في بلد الغائب لم يلزمه إحضاره ، وكان بالخيار في الأصلح للخصم من إنفاذه إلى خليفته لمحاكمة خصمه ، أو سماع البينة عليه ومكاتبة خليفته

                                                                                                                                            وإن لم يكن في بلد الغائب خليفة فقد قال أبو يوسف : إن كان على مسافة يرجع منها إلى وطنه قبل منام الناس أحضره وإن بعد عنها لم يحضره .

                                                                                                                                            وعند الشافعي يحضر إن كان على مسافة لا تقصر بها الصلاة .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا إن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة .

                                                                                                                                            فذهب أكثرهم وهو الظاهر من مذهب الشافعي إلى أنه يحضره للمحاكمة لئلا يتمانع الناس في الحقوق بالتباعد .

                                                                                                                                            وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إحضاره ؛ لأنه لما كانت مسافة القصر شرطا في انتقال ولاية الغائب في النكاح إلى الحاكم ، دل ذلك على اعتبار في إحضار الخصم ، وهذا غير صحيح ، للتعليل المتقدم .

                                                                                                                                            وإذا لزم إحضار الغائب على ما بيناه لم يجز للقاضي أن يحضره إلا بعد تحرير الدعوى وصحة سماعها : لأنه قد يجوز أن يدعي ما لا تصح فيه الدعوى .

                                                                                                                                            حكي أن رجلين تقدما إلى قاض ، فقال أحدهما : إن أخا هذا قتل أخي ، فقال القاضي للمدعى عليه ما تقول ؟ فقال : إن غير هذا قتله غيري فماذا علي .

                                                                                                                                            [ ص: 305 ] وهذا جواب صحيح عن فساد هذه الدعوى ، وكان من صحتها أن يقول : إن أخاه قتل أخي ، وأنا وارثه ، وهذا من عاقلته ، لتتوجه له المطالبة بهذه الدعوى .

                                                                                                                                            ولذلك لم يجز أن يحضر الغائب إلا بعد تحرير الدعوى بما يصح سماعها والحكم فيها ببينة أو يمين .

                                                                                                                                            ولو كانت الدعوى على حاضر في البلد ، جاز للقاضي إحضاره قبل تحرير الدعوى ، والفرق بينهما أن في إحضار الغائب مشقة ، فلم يلزم إلا بعد تحرير الدعوى

                                                                                                                                            وليس في إحضار من في البلد مشقة ، فجاز إحضاره قبل تحرير الدعوى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية