الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : تحكيم الخصمين شخصا

                                                                                                                                            وإذا حكم خصمان رجلا من الرعية ليقضي بينهما فيما تنازعاه في بلد فيه قاض أو ليس فيه قاض جاز .

                                                                                                                                            لأن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت .

                                                                                                                                            ولأنه لما حكم علي بن أبي طالب في الإمامة ، كان التحكيم فيما عداها أولى .

                                                                                                                                            وهكذا حكم أهل الشورى فيها عبد الرحمن بن عوف .

                                                                                                                                            نفوذ حكم المحكم .

                                                                                                                                            وإذا جاز التحكيم في الأحكام فنفاذ حكمه معتبر بأربعة شروط :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون المحكم من أهل الاجتهاد ، ويجوز أن يكون قاضيا ؛ لأنه قد صار بالتحكيم حاكما ، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد بطل تحكيمه ، ولم ينفذ حكمه .

                                                                                                                                            والشرط الثاني : أن يتفق الخصمان على التراضي به إلى حين الحكم ، فإن رضي به أحدهما دون الآخر أو رضيا به ثم رجعا أو رضي أحدهما بطل تحكيمه ولم ينفذ حكمه ، سواء حكم للراضي أو للراجع .

                                                                                                                                            والشرط الثالث : أن يكون التحاكم في أحكام مخصوصة .

                                                                                                                                            والأحكام تنقسم في التحكيم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            قسم يجوز فيه التحكيم : وهو حقوق الأموال ، وعقود المعاوضات ، وما يصح فيه العفو والإبراء .

                                                                                                                                            وقسم لا يجوز فيه التحكيم ، وهو ما اختص القضاة بالإجبار عليه من حقوق الله تعالى والولايات على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه .

                                                                                                                                            [ ص: 326 ] وقسم مختلف فيه وهو أربعة أحكام : النكاح واللعان والقذف والقصاص .

                                                                                                                                            ففي جواز التحكيم فيها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لوقوفها على رضا المتحاكمين .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز لأنها حقوق وحدود يختص الولاة بها .

                                                                                                                                            فلو أن امرأة لا ولي لها خطبها رجل ، فتحاكما إلى رجل ليزوج أحدهما بالآخر ، فإن كانا في دار الحرب أو في بادية لا يصلان إلى حاكم جاز تحكيمهما وتزويج المحكم لهما . وإن كانا في دار الإسلام وحيث يقدران فيه على الحاكم كان في جوازه وجهان على ما ذكرنا .

                                                                                                                                            والشرط الرابع : فيما يصير الحكم به لازما لهما .

                                                                                                                                            وفيه للشافعي قولان نص عليهما في اختلاف العراقيين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا يلزمهما الحكم إلا بالتزامه بعد الحكم كالفتيا ؛ لأنه لما وقف على خيارهما في الابتداء وجب أن يقف على خيارها في الانتهاء ، وهو قول المزني .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو قول الكوفيين وأكثر أصحابنا أنه يكون حكم المحكم لازما لهما ولا يقف بعد الحكم على خيارهما ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله " فكان الوعيد دليلا على لزوم حكمه كما قال في الشهادة : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ البقرة : 283 ] فدل الوعيد على لزوم الحكم بشهادته ، وكقوله عليه السلام : " من علم علما وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " فدل الوعيد على لزوم الحكم بما أبداه .

                                                                                                                                            وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وإذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا " فصار بتأميرهم له نافذ الحكم عليهم كنفوذه لو كان واليا عليهم ، ولذلك انعقدت الإمامة باختيار أهل الاختيار .

                                                                                                                                            وحكى أبو سعيد الإصطخري فيه وجها ثالثا : أن خيارهما في التحكيم ينقطع بشروعه في الحكم ، فإذا شرع فيه صار لازما لهما ، وإن كان قبل شروعه فيه موقوفا على خيارهما ؛ لأن خيارهما بعد الشروع في الحكم مفض إلى أن لا يلزم بالتحكيم حكم إذا رأى أحدهما توجه الحكم عليه ، فيصير التحكيم لغوا .

                                                                                                                                            فإذا صار نافذ الحكم بما ذكرناه ، نظر ، فإن كان ممن يجوز أن يشهد لهم عليهم [ ص: 327 ] لزم المتنازعين إليه حكمه ، وكان المحكوم عليه مأخوذا به ما لم يتعد الحكم إلى غير المتنازعين .

                                                                                                                                            ولم يكن للقاضي أن يرد حكمه إلا ما يرده من حكم غيره من القضاة .

                                                                                                                                            وإذا حكم بينهما أشهد به في المجلس الذي حكم فيه قبل التفرق ؛ لأن قوله لا يقبل عليهما بعد الافتراق ، كما لا يقبل قول الحاكم بعد العزل .

                                                                                                                                            فإن تعدى الحكم إلى غير المتنازعين فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما كان منفصلا عن الحكم ، ولا يتصل به إلا عن سبب موجب كتحاكمهما إليه في دين فأقام به مدعيه بينة شهدت بوجوب الدين ، وأن فلانا ضامنه لزم حكمه في الدين ولم يلزم حكمه في الضمان لوجود الرضا ممن وجب عليه الدين وعلم الرضا ممن وجب عليه الضمان .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون متصلا بالحكم ، ولا ينفصل عنه إلا بسبب موجب كتحاكمهما إليه في قتل خطأ قامت به البينة ، ففي وجوب الدية على العاقلة التي لم ترض بحكمه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : تجب عليه الدية لوجوبها على الراضي بحكمه إذا قيل إن الدية على الجاني ثم تتحملها عنه العاقلة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا تجب على العاقلة الدية ؛ لأنهم لم يرضوا بحكمه إذا قيل إن الدية تجب بابتداء على العاقلة .

                                                                                                                                            وإذا رضي المتنازعان بتحكيم اثنين لم ينفذ حكم أحدهما حتى يجتمعا ، فإن اختلفا في الحكم لم ينفذ حكم واحد منهما حتى يتفقا على الحكم كما اتفقا على النظر .

                                                                                                                                            وإن كان التحكيم من المتنازعين لمن لا يجوز أن يشهد لهما ولا عليهما ، والذي لا يجوز أن يشهد لهما والد وولد ، والذي لا يجوز أن يشهد عليهما عدو ، فينظر : فإن حكم على من لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد لمن يجوز أن يشهد له من الأجانب جاز ، كما يجوز أن يشهد عليه وإن لم يجز أن يشهد له .

                                                                                                                                            وإن حكم لمن لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد على من يجوز أن يشهد له من الأجانب ففي جوازه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز حكمه له ، كما لا يجوز أن يحكم له بولاية القضاء .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز أن يحكم له بولاية التحكيم وإن لم يجز أن يحكم له بولاية [ ص: 328 ] القضاء ؛ لأن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما ، فصار المحكوم عليه راضيا بحكمه عليه وخالفت الولاية المنعقدة بغير اختيارهما .

                                                                                                                                            وإن حكم لعدوه نفذ حكمه .

                                                                                                                                            وإن حكم على عدوه ففي نفوذ حكمه عليه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء بولاية التحكيم كما لا يجوز أن يشهد عليه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء وولاية التحكيم بخلاف الشهادة ، لوقوع الفرق بينهما بأن أسباب الشهادة خافية وأسباب الحكم ظاهرة .

                                                                                                                                            الوجه الثالث : أنه يجوز أن يحكم عليه بولاية التحكيم لانعقادها عن اختياره ولا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء لانعقادها بغير اختياره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية