الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون

التاء في "غائبة" للمبالغة، أي: ما من شيء في غائبة الغيب والخفاء إلا في كتاب [ ص: 557 ] عند الله في مكنون علمه، ثم نبه تعالى على أن هذا القرآن أخبر بني إسرائيل بأكثر الأشياء التي كان بينهم اختلاف في صفتها، فجاءت في القرآن على وجهها، ثم وصفه تعالى بأنه هدى ورحمة للمؤمنين، كما أنه عمى على الكافرين المحتوم عليهم، ومعنى ذلك أن كفرهم استتب مع قيام الحجة ووضوح الطريق، فكثر عماهم بهذه الحجة، ثم أخبر أن ذلك كله بقضاء من الله تعالى وحكم قضاه فيهم وبينهم، ثم أمرهم بالتوكل عليه، والثقة بالله، وبأنه على الحق، أي: إنك الجدير بالنصرة والظهور، ثم سلاه عنهم، وشبههم بالموتى من حيث الفائدة بالقول لهؤلاء وهؤلاء معدومة، فشبههم مرة بالموتى ومرة بالصم، قال العلماء: الميت من الأحياء هو الذي يلقى الله تعالى بكفره.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

واحتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية ، ونظرت هي في الأمر بقياس عقلي، ووقفت مع هذه الآية، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أنتم بأسمع منهم ، فيشبه أن قصة بدر هي خرق عادة للنبي صلى الله عليه وسلم في أن رد الله تعالى إليهم إدراكا سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ على من بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المسلمين منهم، وقد عورضت هذه الآية بالسلام على القبور، وبما روي في ذلك أن الأرواح تكون في شفير القبور في أوقات، قالوا: فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا كله غير معارض للآية; لأن السلام على القبور إنما هو عبادة، وعند الله [ ص: 558 ] الثواب عليها، وهو تذكير للنفس بحالة الموت وبحالة الموتى في حياتهم، وإن جوزنا مع هذا أن الأرواح في وقت على القبور، فإن سمع فليس الروح بميت، وإنما المراد بقوله: إنك لا تسمع الموتى الأشخاص الموجودة مفارقة لأرواحها، وفيها نقول: خرقت العادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أهل القليب ، وذلك كنحو قوله عليه الصلاة والسلام في الموتى إذا دخل عليهم المكان: إنهم يسمعون خفق النعال .

وقرأ ابن كثير : "ولا يسمع" بالياء من تحت "الصم" رفعا، ومثله في الروم، وقرأ الباقون: "تسمع" بالتاء "الصم" نصبا. وقرأ جمهور القراء: "وما أنت بهادي العمي" بالإضافة، وقرأ يحيى بن الحارث ، وأبو حيوة : "بهاد العمي" بتنوين الدال ونصب "العمي"، وقرأ حمزة وحده: "وما أنت تهدي العمي" بفعل مستقبل، وهي قراءة طلحة بن وثاب ، وابن يعمر ، وفي مصحف عبد الله : "وما أن تهدي العمي".

ومعنى قوله: وإذا وقع القول عليهم إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الآن من الله تعالى في ذلك -أي حتمه الله عليهم- وقضاؤه، وهذا بمنزلة قوله تعالى: حقت كلمة العذاب ، فمعنى الآية: وإذا أراد الله تعالى أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض، وروي أن ذلك حين ينقطع الخير، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا تائب، كما أوحى الله تعالى إلى نوح : أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، و "وقع" عبارة عن الثبوت واللزوم، وفي الحديث: إن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول [ ص: 559 ] الأشراط -ولم يعين الأولى- وكذلك الدجال .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وظاهر الأحاديث والروايات أن الشمس آخرها; لأن التوبة تنقطع معها، ويعطي الحال أن الإيمان لا يبقى إلا في أفراد، وعليهم تهب الريح التي لا تبقي إيمانا، وحينئذ ينفد وينفخ في الصور، ونحن نروي أن الدابة تسم قوما بالإيمان، ونجد أن عيسى بن مريم عليه السلام يعدل بعد الدجال، ويؤمن الناس به، وهذه الدابة روي أنها تخرج من جبل الصفا بمكة ، قاله عبد الله بن عمر ، وقال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم أجمعين- نحوه، وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت، وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة ، وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام ، وروى بعضهم عن حذيفة بن اليمان أنها تخرج ثلاث خرجات، وروي أنها دابة مزغبة شعراء، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها [ ص: 560 ] على خلقة الآدميين، وهي في السحاب، وقوائمها في الأرض، وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان، وذكر الثعلبي عن ابن الزبير نحوه، وروي أنها دابة مبثوث نوعها في الأرض، فهي تخرج في كل بلد وفي كل قوم، فقوله -على هذا التأويل-: "دابة" إنما هو اسم جنس، وحكى النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة .

وقرأ جمهور الناس: "تكلمهم" من الكلام، وفي مصحف أبي : "تنبيهم"، وفسرها عكرمة بـ "تسمهم"، قال قتادة : وفي بعض القراءة: "تحدثهم"، وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جريج : "تكلمهم" بكسر اللام من الكلم وهو الجرح، قال أبو الفتح : هي قراءة ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، والجحدري ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ذلك والله تفعل تكلمهم وتكلمهم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وروي في هذا أنها تمر على الناس فتسم الكافر في جبهته وترمده وتشتمه وربما حطمته، وربما تمسح على وجه المؤمن فتبيضه، ويعرف -بعد ذلك- الإيمان والكفر من قبلها.

وقرأ الجمهور من القراء: "إن الناس" بكسر "إن"، وقرأ حمزة ، والكسائي ، [ ص: 561 ] وعاصم بفتح الألف، وفي قراءة عبد الله : "تكلمهم بأن"، وهذا تصديق بالفتح، وعلى هذه القراءة يكون قوله: أن الناس إلى آخر الآية من كلام الدابة، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أن يكون ذلك من كلام الله عز وجل.

التالي السابق


الخدمات العلمية