الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه الحادي والعشرون : قوله : وكذلك أيضا حذف المضاف مجاز ، وقد كثر ، حتى إن في القرآن الذي هو أفصح الكلام منه أكثر من ثلاثمائة موضع ، جوابه من وجهين أحدهما : أن أكثر المواضع التي ادعي فيها الحذف في القرآن لا يلزم فيها الحذف ولا دليل على صحة دعواه كقوله : ( وكم من قرية أهلكناها ) ، ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله ) إلى أمثال ذلك ، فادعى أهل المجاز أن ذلك كله من مجاز الحذف ، وأن التقدير في ذلك كله أهل القرية ، وهذا غير لازم ، فإن القرية اسم للقوم المجتمعين في مكان واحد ، فإذا نسب إلى القرية فعل أو حكم عليها بحكم أو أخبر عنها بخبر كان في الكلام ما يدل على إرادة المتكلم من نسبة ذلك إلى الساكن أو المسكن ، أو هو حقيقة في هذا وهذا ، وليس ذلك من باب الاشتراك اللفظي ، بل القرية موضوعة للجماعة الساكنين بمكان واحد ، فإذا أطلقت تناولت الساكن والمسكن ، وإذا قيدت بتركيب خاص واستعمال خاص كانت فيما قيدت به ، فقوله تعالى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ) حقيقة في الساكن .

[ ص: 352 ] وكذلك لفظة القرية في عامة القرآن إنما يراد بها الساكن فتأمله ، وقد يراد بها المسكن خاصة ، فيكون في السياق ما يعينه كقوله تعالى : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ) أي ساقطة على سقوفها ، وهذا التركيب يعطي المراد ، فدعوى أن هذا حقيقة القرية ، وأن قوله : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله ) ونحوه مجاز ، تحكم بارد لا معنى له ، وهو بالضد أولى ، إذ قد اطرد استعمال القرية إلى الساكن ، وحقيقة الأمر أن اللفظة موضوعة للساكن باعتبار المسكن ، ثم قد يقصد هذا دون هذا ، وقد يرادان معا فلا مجاز هاهنا ولا حذف ، وتخلصت بهذا من ادعاء الحذف فيما شاء الله من المواضع التي زعم أنها تزيد على ثلاثمائة .

الوجه الثاني : أن هذا الحذف الذي يزعمه هؤلاء ليس بحذف في الحقيقة فإن قوة الكلام تعطيه ، ولو صرح المتكلم بذكره كان عيا وتطويلا مخلا بالفصاحة كقوله : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) قالوا : هذا مجاز تقديره : ما أفاء الله من أموال القرى ، وهذا غلط وليس بمجاز ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، والمعنى مفهوم بدون هذا التقدير ، فالقائل اتصل إلي من فلان ألف ، يصح كلامه لفظا ومعنى بدون تقدير ، فإن ( من ) للابتداء في الغاية ، فابتداء الحصول من المجرور بمن ، وكذلك في الآية .

يوضحه أن التقدير إنما يتعين حيث لا يصح الكلام بدونه ، فأما إذا استقام الكلام بدون التقدير من غير استكراه ولا إخلال بالفصاحة كان التقدير غير مفيد ولا يحتاج إليه ، وهو على خلاف الأصل ، فالحذف المتعين تقديره كقوله : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) وقوله : ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) ونحو ذلك .

وأما نحو قوله : ( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) فليس هناك تقدير أصلا إذ الكلام مستغن بنفسه غير محتاج إلى تقدير ، فإن الذي يدعي تقديره قد دل اللفظ عليه باللزوم ، فكأنه مذكور ، لأن اللفظ يدل بلازمه كما يدل بحروفه ، ولا [ ص: 353 ] يقال لما دل عليه دلالة التزام إنه محذوف ، فتأمله فإنه منشأ غلط هؤلاء في كثير مما يدعون فيه الحذف .

نعم هاهنا قسم آخر مما يدعى فيه حذف المضاف وتقديره كقوله : ( وجاء ربك ) أي أمره ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) أي أمره ، وقوله : ( فأتى الله بنيانهم ) أي أمره ، وقوله عليه صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا كل ليلة " ، وأمثال ذلك ، فهذا قد ادعى تقدير المضاف فيه ، ولكن دعوة مجردة مستندة إلى قاعدة من قواعد التعطيل ، وهي إنكار أفعال الرب تعالى ، وأنه لا يقوم به فعل البتة ، بل هو فاعل بلا فعل .

وأما من أثبت أن الرب فاعل حقيقة ، وأنه يستحيل أن يكون فاعلا بلا فعل ، ويستحيل أن يكون الفعل عين المفعول ، بل هي حقائق معتبرة فاعل وفعل ومفعول ، هذا هو المفعول في فطر بني آدم ، فإنه لا يحتاج إلى هذا التقدير ولا يجوزه ، فإن حذفه يكون من باب التلبيس ويرفع الوثوق بكلام المتكلم ، ويوقع التحريف ، فإنه لا يشاء أحد أن يقدر مضافا يخرج به الكلام عن مقتضاه إلا فعل ، وارتفع الوثوق والفهم والتفهيم .

فيقدر الملحد في قوله تعالى : ( وأن الله يبعث من في القبور ) مضافا تقديره أرواح من في القبور ، وفي قوله تعالى : ( يحيي الموتى ) أي أرواح الموتى ، وقوله : ( ولله على الناس حج البيت ) وأمثال ذلك مما يقدر فيه مضاف يخرج الكلام عن ظاهره .

فهذا مما ينبغي التنبه له ، وأنه ليس كل موضع يقبل تقدير المضاف ، ولا كل ما قبله جاز تقديره حتى يكون في الكلام ما يدل على التقدير دلالة ظاهرة ، ولا توقع اللبس بحيث لا يجد السامع بدا من التقدير ، كما يقول القائل : سافرنا في الثريا أي في نوئها ، وجلسنا في الشمس ، أي في حرها ، وهذا مما يعلم بالسياق ، فكأنه مذكور لم يفت إلا التلفظ به ، ومثل هذا لا يقال إنه مجاز ، فإن اللفظ بمجموعه دال على المراد ، والمتكلم قد يختصر ليحفظ كلامه ، وقد يبسط ويطيل ليزيد في الإيضاح والبيان ، والإيجار والاختصار ، والإسهاب والإطناب طريقان للمتكلم ، يسلك هذه مرة وهذه [ ص: 354 ] مرة ، وهذا في كل لغة ، فإذا اختصر ودل على المراد لا يقال تكلم بالمجاز ، يوضحه :

الوجه الثاني والعشرون : أن أكثر ما يدعى فيه الحذف لا يحتاج فيه إليه ولا على صحة دعواه دليل سوى الدعوى المجردة ، فمن أشهر ما يدعى فيه الحذف التحريم والتحليل والمضاف إلى الأعيان نحو : ( حرمت عليكم الميتة ) ، ( حرمت عليكم أمهاتكم ) ، ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ونظائره ، قالوا : لأن التحريم والإباحة والكراهة والإيجاب طلب لا يتصور تعلقه بالأعيان لاستحالة إيجاد المكلف لهما ، وإنما يتعلق بالأفعال الواقعة فيها ، فهي التي توصف بالحل والحرمة والكراهة .

وأما الأعيان فلا توصف بذلك إلا مجازا ، فإذا قال : حرمت الميتة كان التقدير أكلها ، كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم " إنما حرم عليكم من الميتة أكلها " وحرمت الخمر ، أي شربها ، والحرير أي لبسه ، وأمهاتكم ، أي نكاحهن ، ولما كان في الكلام محذوف ، قالت طائفة : لا يمكن إضمار كل فعل ، إذ العموم من عوارض الألفاظ ، ودلالة الحذف والإضمار لا عموم لها ، فيكون مجملا .

وقالت طائفة : بل المقدر كالملفوظ ، فتارة يكون عاما وتارة يكون خاصا ، وهذا بحسب الفعل المطلوب من تلك العين ، فتحريم ما يشرب تحريم شربه ، وما يؤكل تحريم أكله ، وما يلبس تحريم لبسه ، وما يركب تحريم ركوبه من غير أن توصف الأعيان بالحل والحرمة .

وقالت طائفة : هذا ثابت من جهة اللزوم وإلا فالتحريم والإباحة واقع على نفس الأعيان ويصح وصف الأعيان بذلك حقيقة باعتبار الألفاظ المطلوب منها ، قالوا : وهذا كما توصف بأنها محبوبة أو مكروهة في نفسها ، وإنما الحب والكراهة والبغض متعلق بأفعالنا فيها .

قيل : هذا مكابرة ظاهرة ، فإنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا محبة بعض الأعيان وبغض بعضها ، ويعلم كل عاقل صحة قول القائل : هذا الشيء محبوب ، وهذا مكروه ، وذلك حقيقة لا مجاز ، فأي عقل وشرع ولغة يمنع من اتصاف الأعيان أنفسها بكونها مباحة أو محرمة كما توصف بكونها محبوبة أو مكروهة .

[ ص: 355 ] وقول القائل : إن الأعيان لا تدخل تحت الطلب ، يقال له : هذا من وهمك حيث ظننت أن تحريمها وتحليلها طلب لإيجادها وعدمها ، فإن هذا لا يفهمه أحد ولا يخطر ببال السامع أصلا ، وإنما يفهم كونها حلالا أو حراما الإذن في تناوله والمنع منه ، هذا حقيقة اللفظ وموضوعه وعرف استعماله ، والتركيب مرشد إلى فهم المعنى ، ولم يوضع لفظ التحريم والتحليل لإحداث الأعيان ولا إعدامها ولا استعمل في ذلك ولا فهمه أحد أصلا ، وإنما حقيقته ما يفهم المخاطب منه فله وضع ، وفيه استعمل ، ومنه فهم ، فإذا سمع المخاطب : هذه المرأة حرام عليك ، لم يشك في المعنى ولم يتوقف فهمه له على تقدير محذوف وإضمار مضاف ، ولم يخطر بباله أن هذا الكلام مجاز لا حقيقة .

ولما سمع المؤمنون قوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) إلى آخرها ، لم يقع في قلوبهم أن هذا مجاز ولا خطر ببالهم غير حقيقته ومفهومه ، وهذا كله إنما نشأ من قبل المتولجين المتكلفين ، ألا ترى أن الذين نزل القرآن بلغتهم لم يختلفوا في ذلك ولم يتكلفوا هذه التقادير ، بل كانوا أفقه من ذلك وأصح أفهاما وأعلى طلبا ، وإنما لهج المتأخرون بذلك لما نزلت مرتبتهم وتقاصرت أفهامهم وعلومهم من علوم أولئك .

وهل سمع عربي قط ولو من أجلاف العرب قوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) ، ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) ، ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) ، ونظائره ، فأصابهم ما أصاب هؤلاء من البحث عن كون ذلك حقيقة أو مجازا أو مجملا لا يدري المراد منه ؟ وهل توقف في فهم المراد على إضمار وحذف ، ثم فكر وقدر في تعيينه ؟

ولما قال سبحانه : ( وحرمنا عليه المراضع من قبل ) فهم السامع المراد من غير أن يخطر بباله حذف ولا إضمار ، وكذلك قوله تعالى : ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ) فإذا ظهر مراد المتكلم وفهم السامع فأي حاجة إلى دعوى محذوف يحكم على المتكلم أنه أراده ، وأنه لا يصح الكلام بدونه ، ويوضحه :

الوجه الثالث والعشرون : أن الأعيان توصف بكونها طيبة وخبيثة ونافعة وضارة فكذلك توصف بكونها حلالا وحراما ، إذ الحل والحرمة تبع طيبها وخبيثها وكونها [ ص: 356 ] ضارة ونافعة ، كما قال تعالى : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) ولا بد أن يكون الحلال طيبا في نفسه ، والحرام خبيثا في نفسه ، فوصفه بكونه حلالا أو حراما جار مجرى وصفه بكونه طيبا أو خبيثا ، ودلالة تحريم العين وتحليلها على الفعل المتعلق بها من باب دلالة الالتزام .

وقد علمت أن ما يدل بالالتزام لا يقال فيه : إنه محذوف مقدر ، فالقائل لغيره : اصعد السطح ، قد دله بالالتزام على الصعود في السلم ، ولا يقال في الكلام مضمرا محذوفا ، وهو بدون ذكره مجازا ، ولو كان كذلك ، لكان كل كلام له لازم يذكر معه لازمه مجازا ، وهذا لا يقوله إلا من لا يدري ما يقول ، فإن الرجل إذا قال ( تعال ) فله لازم وهو قطع المسافات ، وإذا قال ( كل ) فله لازم وهو تناول المأكول ، وكذلك كل خطاب في الدنيا له لازم يدل عليه باللزوم ، فافتحوا باب الحذف والإضمار في ذلك كله وقولوا : إن الكلام بدون ذكره مجاز ، وإلا فما الفرق بين ما ادعيتم إضماره وبين ما ذكرناه ، فأي فرق بين اصعد السطح وبين اطبخ اللحم واخبز العجين وابن الحائط ، فهذا له لوازم وهذا له لوازم ، والمتكلم لا يجب عليه ذكر اللزوم ، بل ذكرها عي وتطويل .

الوجه الرابع والعشرون : قوله : وأما قول الله عز وجل : ( وكلم الله موسى تكليما ) فليس هو من باب المجاز بل هو حقيقة .

فيقال له : ما أسرع ما هدمت جميع ما بنيته ، ونقضت كل ما أصلته ، فإنك قدمت في أول الباب أن الفعل يقتضي جميع أفراد المصدر ، وهذا محال ، فالأفعال عامتها مجاز ، وقدمت أن خلق السماوات والأرض مجاز ، وعلم الله مجاز ، فما بال ( وكلم الله موسى تكليما ) وحده حقيقة من بين سائر الأفعال ، ومن العجب أن يكون خلق الله السماوات والأرض وعلم الله عندك مجازا وهو أظهر للأمم من كل ظاهر ، و ( وكلم الله موسى تكليما ) حقيقة ، وفيه من أظهر الخلاف والخفاء ما لا يخفى ، ونحن لا نشك أن الجميع حقيقة ، ومن قال إن ذلك أو بعضه مجاز فهو ضال ، ولكن القائلون بأن " كلم الله موسى " مجاز ، يقولون : إن خلق الله وعلم الله حقيقة ، وهم الجهمية والكلابية ، وأما القائلون بخلق القرآن فلهم قولان : أكثرهم يقول : إنه مجاز ، وبعضهم [ ص: 357 ] يقول : إنه حقيقة ، وكلم الله ويكلم حقيقة في خلق حروف وأصوات يكون متكلما مكلما ، والمتكلم عندهم حقيقة من فعل الكلام وحقيقة الكلام عندهم هي الحروف والأصوات ، وأصابوا في ذلك لكن أخطئوا في اعتقادهم أن المتكلم من فعل الكلام في غيره ولم يقم به ، فالكلام عندهم مخلوق ، والرب لم يقم به عندهم كلام ولا أمر ولا نهي ، وهؤلاء الذين اتفق السلف وأئمة الإسلام على تكفيرهم .

الوجه الخامس والعشرون : أنهم إذا قالوا : المتكلم من فعل الكلام في غيره فصار بذلك متكلما دون المحل الذي قام به الكلام ، فقد قلبوا أوضاع اللغات ، وخرجوا عن المعقول وعن لغات الأمم قاطبة ، فإن الله تعالى لو اتصف بما يحدثه في غيره من الأعراض والصفات لكان اسود بالسواد الذي يخلقه في المحل ، وكذلك إذا خلق في محل بياضا أو حمرة أو طولا أو قصرا أو حركة كان المحل الذي قامت به هذه الصفات والأعراض هو الموصوف بها حقيقة لا الخالق لها ، فالصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك لا إلى غيره ، واشتق له منها اسم لم يشتق لغيره ، وأخطأ القائلون بخلق القرآن في هذه المسائل الأربع وأخلوا المحل عن حكم الصفة وأعادوه إلى غيره من قامت به ، واشتقوا الاسم لمن لم تقم به دون من قامت به فقلبوا الحقائق .

التالي السابق


الخدمات العلمية