الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون

هذا النداء أيضا كالأول في احتماله الواسطة من الملائكة، وهذا النداء أيضا للكفار يوقفهم على ما أجابوا به المرسلين الذين دعوهم إلى الله تعالى. فعميت عليهم الأنباء أي: أظلمت الأمور، فلم يجدوا خبرا يخبرون به مما لهم فيه نجاة، وساق الفعل في صيغة المضي لتحقق وقوعه وأنه تعين، والماضي من الأفعال متيقن، فلذلك توضع صيغته بدل المستقبل المتيقن فيقوى وقوعه وصحته، ومعناه: أظلمت جهاتها، وقرأ الأعمش : "فعميت" بضم العين وشد الميم، وروي في بعض الحديث: كان الله في عماء وذلك قبل أن يخلق الأنوار وسائر المخلوقات. و "الأنباء" جمع نبأ. وقوله تعالى: فهم لا يتساءلون معناه فيما قال مجاهد وغيره: بالأرحام والأنساب الذي عرفه في الدنيا أن يتساءل به; لأنهم قد أيقنوا أن كلهم لا حيلة لهم ولا مكانة، ويحتمل أن يريد أنهم لا يتساءلون عن الأنباء لتيقن جميعهم أنه لا حجة لهم.

ثم انتزع تعالى من الكفرة من تاب من كفره، وآمن بالله ورسله، وعمل بالتقوى، ورجى عز وجل أنهم يفوزون ببغيتهم ويبقون في النعيم الدائم، وقال كثير من العلماء: "عسى" من الله واجبة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا ظن حسن بالله تعالى يشبه فضله وكرمه، واللازم من "عسى" أنها ترجية [ ص: 605 ] لا واجبة، وفي كتاب الله عز وجل: عسى ربه إن طلقكن .

وقوله تعالى: وربك يخلق ما يشاء ويختار الآية، قيل: سببها ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقول بعضهم: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فنزلت هذه الآية بسبب تلك المنازع، ورد الله تعالى عليهم، وأخبر أنه يخلق من عباده وسائر مخلوقاته ما يشاء، وأنه يختار لرسالته من يريد ويجعل فيه المصلحة، ثم نفى أن يكون الاختيار للناس في هذا ونحوه، هذا قول جماعة من المفسرين، قالوا: أن "ما" نافية، أي: ليس لهم الخيرة عن الله تبارك وتعالى، فتجيء الآية كقوله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ويحتمل أن يريد: ويختار الله تعالى الأديان والشرائع، وليس لهم الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام ونحوها في العبادة، ويؤيد هذا التأويل قوله: سبحان الله وتعالى عما يشركون .

وذهب الطبري إلى أن "ما" في قوله: ويختار ما كان مفعولة، قال: والمعنى أن الكفار كانوا يختارون من أموالهم لأصنامهم خيارها، فأخبر الله تعالى أن الاختيار إنما هو له وحده، يخلق ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرا للناس، لا كما يختارون هم ما ليس لهم، ويفعلون ما لم يؤمروا به.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

واعتذر الطبري عن الرفع الذي أجمع القراء عليه في قوله تعالى: ما كان لهم الخيرة بأقوال لا تتحصل، وقد رد الناس عليه في ذلك، وذكر عن الفراء أن [ ص: 606 ] القاسم بن معن أنشده بيت عنترة :


أمن سمية دمع العين تذريف لو كان ذا منك قبل اليوم معروف



وقرن الآية بهذا البيت، والرواية في البيت: (لو أن ذا)، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون ضمير الأمر والشأن، فأما في الآية فلا يكون بجملة فيها محذوف، وفي هذا كله نظر.

والوقف على ما ذهب إليه جمهور الناس في قوله تعالى: ويختار ، وعلى ما ذهب إليه الطبري لا يوقف على ذلك.

ويتجه عندي أن تكون "ما" مفعولة إذا قدرنا "كان" تامة، أي أن الله تعالى يختار كل كائن، ولا يكون شيء إلا بإذنه، وقوله تبارك وتعالى: لهم الخيرة جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله تعالى لهم لو قبلوا وفهموا.

التالي السابق


الخدمات العلمية