الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أنه كان يقول من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه يقول أنا كنزك [ ص: 163 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 163 ] 596 597 - ( مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان ) بائع السمن ( عن أبي هريرة أنه كان يقول ) موقوفا ، ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - . رواه البخاري ، وتابعه زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا عند مسلم ، وساقه مطولا ، وكذا رفعه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عند البخاري ، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم ، والقعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة عند النسائي ، وخالفهم عبد العزيز بن أبي سلمة فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أخرجه النسائي ورجحه ، لكن قال ابن عبد البر : رواية عبد العزيز خطأ بين في الإسناد ; لأنه لو كان عند ابن دينار عن ابن عمر ما رواه عن أبي صالح أصلا ، قال الحافظ : وفي هذا التعليل نظر ، وما المانع أن له فيه شيخين ، نعم ، الذي على طريقة أهل الحديث أن رواية عبد العزيز شاذة ; لأنه سلك طريق الجادة ، ومن عدل عنها دل على مزيد حفظه .

                                                                                                          ( من كان عنده مال لم يؤد زكاته ) وفي رواية البخاري : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته " . ( مثل ) بضم الميم مبنيا للمفعول ، أي صور ( له يوم القيامة ) ماله الذي لم يؤد زكاته ( شجاعا ) بضم الشين والنصب مفعول ثان لمثل ، والضمير الذي فيه يرجع إلى مال وقد ناب عن المفعول الأول . وقال الطيبي : نصب لجريه مجرى المفعول الثاني ، أي صور ماله شجاعا . وقال الدماميني : نصب على الحال وهو الحية الذكر . وقيل : الذي يقوم على ذنبه ويواثب الفارس والراجل ، وربما بلغت وجه الفارس ، تكون في الصحارى . ( أقرع ) برأسه بياض ، وكلما كثر سمه ابيض رأسه ، قاله ابن عبد البر . وفي الفتح : الأقرع الذي تقرع رأسه أي تمعط لكثرة سمه . وفي كتاب أبي عبيد : سمي أقرع ; لأن شعر رأسه يتمعط لجمعه السم فيه . وتعقبه القزاز بأن الحية لا شعر برأسها فلعله يذهب جلد رأسه . وفي تهذيب الأزهري : سمي أقرع ; لأنه يفري السم ويجمعه في رأسه حتى تتمعط فروة رأسه ، قال ذو الرمة :


                                                                                                          فرى السم حتى انمار فروة رأسه عن العظم صل فاتك اللسع مارده

                                                                                                          .

                                                                                                          ( له زبيبتان ) بفتح الزاي وموحدتين ، تثنية زبيبة ، وهما الزبدتان اللتان في الشدقين ، يقال : تكلم فلان حتى زبت شدقاه ، أي خرج الزبد منهما . وقيل : هما النكتتان السوداوان فوق عينيه ، وهي علامة الحية الذكر المؤذي . وقيل : نقطتان يكتنفان فاه . وقيل : هما في حلقه بمنزلة [ ص: 164 ] زنمتي العنز . وقيل : لحمتان على رأسه مثل القرنين . وقيل : نابان يخرجان من فيه ( يطلبه حتى يمكنه ) وللبخاري والنسائي : فلا يزال يتبعه حتى يلقمه أصبعه ( يقول : أنا كنزك ) وللبخاري : أقرع يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا : ( ولا يحسبن الذين يبخلون ) ( سورة آل عمران : الآية 180 ) الآية ، وفائدة هذا القول زيادة الحسرة في العذاب حتى لا ينفعه الندم ، وفيه نوع من التهكم . ولابن حبان في حديث ثوبان يتبعه فيقول : " أنا كنزك الذي تركته بعدك ، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيمضغها ، ثم يتبعه سائر جسده " . ولمسلم في حديث جابر : " يتبع صاحبه حيث ذهب وهو يفر منه ، فإذا رأى أنه لا بد له منه أدخل يده في فيه ، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل " . وظاهر الحديث أن الله يصير نفس المال بهذه الصفة . وفي حديث جابر عند مسلم مثل كما هنا ، قال القرطبي : أي صور أو نصب وأقيم من قولهم مثل قائما أي منتصبا أو ضمن مثل معنى التصيير أي صير ماله على هذه الصورة . وقال عياض : ظاهره أن الله خلق هذا الشجاع لعذابه ، ومعنى مثل نصب كقوله : من سره أن يتمثل له الناس قياما أي ينتصبون . وقد يكون معناه صور ماله على هذه الصورة كقوله : أشد الناس عذابا الممثلون أي المصورون . ويشهد له رواية : " إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا " . ثم لا تنافي بين هذا وبين رواية مسلم مرفوعا : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره " لأنه يجتمع له الأمران جميعا . فحديث الباب يوافق الآية وهي : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) ( سورة آل عمران : الآية 180 ) ورواية مسلم توافق الآية : ( فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ) ( سورة التوبة : الآية 35 ) لأنه جمع المال ولم يصرفه في حقه لتحصيل الجاه والتنعم بالمطاعم والملابس ، أو لأنه أعرض عن الفقير وولاه ظهره ، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة لاشتمالها على الأعضاء الرئيسية . وقيل : المراد بها الجهات الأربع التي هي مقدم البدن ومؤخره وجنباه ، نسأل الله السلامة .

                                                                                                          هذا وفي الحديث دلالة على أن المراد بالتطويق في الآية الحقيقة ، خلافا لمن قال معناه : سيطوقون الإثم ، وفي تلاوته - صلى الله عليه وسلم - لها كما صرح به في حديث ابن مسعود عند الحميدي والشافعي ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يحسبن ) ( سورة آل عمران : الآية 180 ) الآية ، وللترمذي : ثم قرأ مصداقه : ( سيطوقون ما بخلوا به ) دلالة على أنها في مانعي الزكاة ، وهو قول أكثر علماء التفسير . وقيل : نزلت في اليهود الذين كتموا صفته - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : فيمن له قرابة لا يصلهم ، قاله مسروق .




                                                                                                          الخدمات العلمية