الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وصفته أن يبتدئ من الميقات في أشهر الحج فيحرم بالعمرة ويدخل مكة فيطوف لها ويسعى ويحلق أو يقصر وقد حل من عمرته ) [ ص: 5 ] وهذا هو تفسير العمرة ، وكذلك إذا أراد أن يفرد بالعمرة فعل ما ذكرنا ، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء . وقال مالك : لا حلق عليه ، إنما العمرة الطواف والسعي ، وحجتنا عليه ما روينا . وقوله تعالى { محلقين رءوسكم } الآية . نزلت في عمرة القضاء ; ولأنها لما كان لها تحرم بالتلبية كان لها تحلل بالحلق كالحج ( ويقطع التلبية إذا ابتدأ بالطواف ) وقال مالك رحمه الله : كلما وقع بصره على البيت ; لأن العمرة زيارة البيت وتتم به .

ولنا { أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر } ولأن المقصود هو الطواف فيقطعها عند افتتاحه ، ولهذا يقطعها الحاج عند افتتاح الرمي . قال ( ويقيم بمكة حلالا ) ; لأنه حل من العمرة ، قال ( فإذا كان [ ص: 6 ] يوم التروية أحرم بالحج من المسجد ) والشرط أن يحرم من الحرم أما المسجد فليس بلازم ; وهذا لأنه في معنى المكي ، وميقات المكي في الحج الحرم على ما بينا ( وفعل ما يفعله الحاج المفرد ) ; لأنه مؤد للحج إلا أنه يرمل في طواف الزيارة ويسعى بعده ; لأن هذا أول طواف له في الحج ، بخلاف المفرد ; لأنه قد سعى مرة ، ولو كان هذا المتمتع بعدما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة ولا يسعى بعده ; لأنه قد أتى بذلك مرة ( وعليه دم المتمتع ) للنص الذي تلوناه ( فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ) على الوجه الذي بيناه في القران ( فإن صام ثلاثة أيام من شوال ثم اعتمر لم يجزه عن الثلاثة ) ; لأن سبب وجوب هذا الصوم التمتع ; لأنه بدل عن الهدي وهو في هذه الحالة غير متمتع فلا يجوز أداؤه قبل وجود سببه ( وإن صامها ) بمكة ( بعدما أحرم بالعمرة قبل أن يطوف جاز عندنا ) خلافا للشافعي رحمه الله له قوله تعالى [ ص: 7 ] { فصيام ثلاثة أيام في الحج } ولنا أنه أداه بعد انعقاد سببه ، والمراد بالحج المذكور في النص وقته على ما بينا . ( والأفضل تأخيرها إلى آخر وقتها وهو يوم عرفة ) لما بينا في القران .

التالي السابق


( قوله : فيطوف لها ويسعى إلخ ) لم يذكر طواف القدوم ; لأنه ليس للعمرة طواف قدوم ولا صدر [ ص: 5 ] وذكر من الصفة الحلق أو التقصير فظاهره لزوم ذلك في التمتع وليس كذلك ، بل لو لم يحلق حتى أحرم بالحج وحلق بمنى كان متمتعا وهو أولى بالتمتع ممن أحرم بالحج بعد طواف أربعة أشواط للعمرة على ما ذكرناه آنفا . ( قوله هكذا فعل إلخ ) أما أن أفعال العمرة ما ذكر غير الحلق أو التقصير فضروري لا يحتاج إلى بيان . وأما أن منها الحلق أو التقصير خلافا لمالك رحمه الله فيدل عليه ما قدمناه في بحث القران من حديث معاوية { قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص } ومعلوم أن التقصير عند المروة لا يكون إلا في عمرة غير أن عند البخاري ومسلم : { قصرت أو رأيته يقصر عن رأسه } فإن كان الواقع الأول تعين كونها عمرة الجعرانة كما قدمناه ، وإن كان الثاني لم يلزم وهو حجة على مالك رحمه الله ( قوله : وقال مالك كما وقع بصره على البيت ) وعنه كما رأى بيوت مكة . ولنا ما روى الترمذي عن ابن عباس { أنه عليه الصلاة والسلام كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم } وقال : حديث صحيح .

ورواه أبو داود ولفظه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال { يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر } ( قوله : ولهذا يقطعها الحاج إلخ ) إنما تتم هذه الملازمة لو كان الرمي هو المقصود في الحج وهو منتف ، بل المقصود الوقوف والطواف . فالصواب في التقرير على رأينا أن يقال : كما لم تقطع التلبية في الحج قبل الشروع في الأفعال ، [ ص: 6 ] كذا لا تقطع في العمرة قبله فبطل قولكم بقطعها قبل الطواف . وعلى رأيه بطريق الإلزام أن يقال : كما أنها لم تقطع في الحج إلا عند الشروع في المقاصد ، وهو الوقوف عندك يجب في العمرة أن لا تقطع إلا عند الشروع في مقاصدها وهو الطواف .

( قوله : والمسجد ليس بلازم ) بل هو أفضل ، ومكة أفضل من غيرها من الحرم ، والشرط الحرم ( قوله : وفعل ما يفعله الحاج المفرد ) إلا طواف التحية ; لأنه في حكم أهل مكة ولا طواف قدوم عليهم ( قوله : ولو كان هذا المتمتع بعدما أحرم بالحج طاف ) أي للتحية ( وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة ) سواء كان رمل في طواف التحية أو لا ( ولا يسعى بعده ; لأنه قد أتى بالسعي مرة ) قيل هذا دليل على أن طواف التحية مشروع للتمتع حتى اعتبر سعيه عقيبه . ا هـ . ولا يخلو من شيء ، فإن الظاهر أن المراد أنه إذا طاف ثم سعى أجزأه عن السعي لا أنه يشترط للإجزاء اعتباره طواف تحية ، بل المقصود أن السعي لا بد أن يترتب شرعا على طواف ، فإذا فرضنا أن المتمتع بعد إحرام الحج تنفل بطواف ثم سعى بعده سقط عنه سعي الحج ، ومن قيد إجزاءه بكون الطواف المقدم طواف تحية فعليه البيان .

( قوله : فلا يجوز أداؤه قبل وجود سببه ) فالشرط فيها أن يكون محرما بالعمرة في أشهر الحج مثل ما ذكرناه في القران وإلى آخر ما ذكرناه فيه ( قوله : خلافا للشافعي ) فإنه لا يجزئه إلا بعد إحرام الحج [ ص: 7 ] قوله : لأنه أداه بعد انعقاد سببه ) لا شك أن سببه التمتع اللغوي الذي هو الترفق ; لترتيبه على التمتع في النص ، ومأخذ الاشتقاق علة للمرتب ، والعمرة في أشهر الحج هي السبب فيه ; لأنها التي بها يتحقق الترفق الذي كان ممنوعا في الجاهلية وهو معنى التمتع لا أن الحج معتبر جزء السبب بناء على إرادة التمتع في عرف الفقه لوجهين : أحدهما جعل الحج غاية لهذا التمتع حيث قال { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فكان المفاد ترفق بالعمرة في أشهر الحج ترفقا غايته الحج ، وإلا كان ذكر التمتع ذكرا للحج من عامه فلم يحتج إلى ذكره . والثاني أنه على ذلك التقرير كان يلزم أن لا يجوز صوم الثلاثة إلا بعد الفراغ كالسبعة لكنه سبحانه فصل بينهما فجعل الثلاثة في الحج : أي وقته ، والسبعة بعد الفراغ ، فعلم أنه لم يعتبر في السبب المجوز للصوم تحقق حقيقة التمتع بالمعنى الفقهي بل الترفق بالعمرة في أشهر الحج لكن لا مطلقا ، بل المقيد بكون غايته الحج من عامه لا على اعتبار القيد جزءا من السبب أو شرطا في ثبوت سببيته وإلا لزم ما ذكرنا من امتناع الصوم قبل الفراغ وهو منتف ، فكان السبب المقيد لا يشترط قيده في السببية فإذا صام بعد إحرام العمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ظهر أنه صام بعد السبب وفي وقته ، بخلاف ما إذا لم يحج من عامه ; لأنه لم يظهر وقوعه بعد المقيد ، ومثل هذا جائز إذا أمكن وقد أمكن ، وسببه تراخي القيد عنه في الوجود ، أما السبعة فإن السبب وإن تحقق بعد إحرام العمرة لكن لم يجئ وقتها ; لأن الإيجاب معلق بالرجوع ، فالصوم قبله قبل وقته وإن كان بعد السبب .

واعلم أن مقتضى هذا عدم الجواز قبل الفراغ من العمرة ; لأن التمتع : أعني الترفق بالعمرة لا يتحقق بمجرد الإحرام بها ، لكن الحكم هو الجواز بمجرد الإحرام كأنه لثبوت عدم القدرة على الخروج [ ص: 8 ] عن الإحرام بلا فعل وفيه إقناع إلا أن يستلزم خلافه إحداث قول ثالث فيتم المراد .




الخدمات العلمية