الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا استقرت اليدان في مقرهما ابتدأ التكبير مع إرسالهما وإحضار النية ثم يضع اليدين على ما فوق السرة وتحت الصدر ويضع اليمنى على اليسرى إكراما لليمنى بأن تكون محمولة ، وينشر المسبحة والوسطى من اليمنى على طول الساعد ، ويقبض بالإبهام والخنصر والبنصر على كوع اليسرى .

التالي السابق


(وإذا استقرت اليدان في مقرهما ابتدأ التكبير) ، أي: شرع في إتيانه (مع إرسالهما) ، أي: اليدين (وإحضار النية) ، وفي "العوارف": ولا يبتدئ بالتكبير إلا إذا استقرت اليدان حذو المنكبين، ويرسلهما مع التكبير من غير نقص، فالوقار إذا سكن القلب تشكلت به الجوارح وتأيدت بالأولى والأصوب، ويجمع بين نية الصلاة والتكبير، بحيث لا يغيب عن قلبه حالة التكبير أنه يصلي الصلاة بعينها، ثم يضع اليدين على ما فوق السرة وتحت الصدر، وبه قال أحمد في إحدى الروايتين، وقال أبو حنيفة : يجعلهما تحت السرة، وهو رواية أيضا عن أحمد .

ويحكى عن أبي إسحاق المروزي، قال الرافعي لنا: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه فسر قوله تعالى: فصل لربك وانحر بوضع اليمنى على الشمال تحت النحر، قال ابن الملقن : رواه الدارقطني والبيهقي، والحاكم وقال: إنه أحسن ما يروى في تأويل الآية .

قال ابن الملقن : قلت: على علاته، ثم قال الرافعي : ويروى أن جبريل كذلك فسره للنبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن الملقن: رواه البيهقي والحاكم بإسناد واه، وقال صاحب "القوت" بعد أن أورد حديث علي: وهذا موضع علم علي رضي الله عنه، ولطيف معرفته؛ لأن تحت الصدر عرقا يقال له الناحر لا يعلمه إلا العلماء، فاشتق قوله تعالى: وانحر من لفظ الناحر وهو هذا العرق، كما يقال دمغ، أي أصاب الدماغ، ولم يحمله نحر البدن؛ لأنه ذكر في الصلاة، ومن الناس من يظن أن اشتقاقه من النحر، والنحر تحت الحلقوم عند ملتقى التراقي، واليد لا توضع هناك، ولكن من فسره على معنى: وانحر القبلة بنحرك أي: استقبلها بنحرك، فاشتقاقه حينئذ من النحر اهـ .

ودليل أبي حنيفة ما رواه أحمد والدارقطني والبيهقي عن علي رضي الله عنه أنه قال: السنة وضع الكف على الكف تحت السرة، والصحابي إذا قال: "السنة"، تحمل على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، (و) يستحب أن (يضع اليمنى على اليسرى إكراما لليمنى) لشرفها (بأن تكون محمولة، وينشر المسبحة والوسطى من اليمنى على طول الساعد، ويقبض بالخنصر والبنصر على كوع اليسرى) ، خلافا لمالك في إحدى الروايتين؛ حيث قال: ثم يرسلهما، قال الرافعي لنا: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من سنن المرسلين: تعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة". قال ابن الملقن: رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، قال تلميذه الحافظ وكذا الطبراني في "الأوسط"، كلاهما من رواية ابن وهب عن عمرو بن الحارث أنه سمع عطاء يحدث عن ابن عباس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا معشر الأنبياء أمرنا [ ص: 38 ] أن نؤخر سحورنا ونعجل فطورنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا". وله شاهد من حديث ابن عمر رواه العقيلي وضعفه، ومن حديث حذيفة أخرجه الدارقطني في "الأفراد"، وفي مصنف ابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء موقوفا: "من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة"، اهـ .

وقال المزجد في "التجريد": قال في "الأم": القصد من وضع اليمين على اليسار تسكين يديه، فإن أرسلهما ولم يعبث، فلا بأس، حكاه ابن الصباغ، وكذا المتولي بعد أن قال: ظاهر المذهب كراهة إرسالهما، اهـ .

قال الرافعي : والمستحب أن يقبض بكفه اليمنى كوعه اليسرى وبعض الكرسوع والساعد؛ خلافا لأبي حنيفة، حيث قال: يضع كفه اليمنى على موضع كفه اليسرى من غير أخذ، كذلك رواه أصحابنا .

قلت: هذا الذي ذكره الرافعي هو المذكور في "النهاية" وغيره من كتب المذهب، وزادوا: ويلحق الخنصر والإبهام على الرسغ. وروي عن أبي يوسف : يقبض باليمنى رسغ اليسرى، وقال محمد : يضع الرسغ وسط الكف، وفي "المفيد": يأخذ الرسغ بالخنصر والإبهام، وهو المختار، كذا في "شرح النقاية"، قال الرافعي : لنا ما روي عن وائل بن حجر "أنه صلى الله عليه وسلم كبر ثم أخذ شماله بيمينه".

قلت: رواه أبو داود وصححه ابن حبان ، ثم قال الرافعي : ويروى عنه: "ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد".

قلت: رواه أبو داود وصححه ابن حبان ، ورواه الطبراني بلفظ: "وضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة قريبا من الرسغ"، ثم قال الرافعي : ويتخير بين بسط أصابع اليمنى في عرض المفصل وبين نشرها في صوب الساعد، ذكره القفال؛ لأن القبض باليمنى على اليسرى حاصل في الحالتين .

وقد أورد الشهاب السهروردي في "العوارف" وجها لطيفا لمعنى وضع اليمنى على الشمال في الصلاة قال: وفي ذلك سر خفي يكاشف به من وراء أستار الغيب، وذلك أن الله تعالى بلطيف حكمته خلق الآدمي وشرفه وجعله محل نظره، ومورد وحيه ونخبة ما في أرضه وسمائه، روحانيا جسمانيا أرضيا سماويا، منتصب القامة، مرتفع الهيئة، فنصفه الأعلى من حد الفؤاد مستودع أسرار السموات، ونصفه الأسفل مستودع أسرار الأرض، فمحل نفسه ومركزها النصف الأسفل، ومحل روحه الروحاني والقلب ومركزهما النصف الأعلى، فجواذب الروح مع جواذب النفس يتطاردان ويتجاذبان، وباعتبار تطاردهما وتجاذبهما وتقالبهما لمة الملك ولمة الشيطان، ووقت الصلاة يكثر التطارد لوجود التجاذب بين الإيمان والطبع، فيكاشف المصلي الذي صار قلبه سماويا مترددا بين الفناء والبقاء بجواذب النفس متصاعدة من مركزها، وللجوارح وتصرفها وحركتها مع معاني الباطن ارتباط وموازنة، فبوضع اليمين على الشمال حصر النفس ومنع من صعود جواذبها، وأثر ذلك يظهر بدفع الوسوسة، وزوال حديث النفس في الصلاة، ثم إذا استولت جواذب الروح، وتملكت من القرن إلى القدم عند كمال الأنس، وتحقق قرة العين واستيلاء سلطان المشاهدة، تصير النفس مقهورة ذليلة، ويستنير مركزها بنور الروح، فتنقطع حينئذ جواذب النفس، وعلى قدر استنارة مركز النفس يزول كل العبادة ويستغني حينئذ عن مقاومة النفس، ومنع جواذبها بوضع اليمين على الشمال فيسبل حينئذ، ولعل ذلك -والله أعلم- ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى مسبلا، وهو مذهب مالك اهـ .




الخدمات العلمية