الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          689 685 - ( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصيام جنة ) بضم الجيم وشد النون أي وقاية وسترة ، قيل من المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعفها ، ولذا قيل : إنه لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين ، وقيل : جنة من النار ، وبه جزم ابن عبد البر لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها ، وقد زاد الترمذي وسعيد بن منصور عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد : من النار ، ولأحمد من طريق أبي يونس عن أبي هريرة : جنة وحصن حصين من النار ، وللنسائي من حديث عثمان بن أبي العاصي جنة كجنة أحدكم من القتال ، وللطبراني عنه : جنة يستجن بها العبد من النار ، وللبيهقي عنه : جنة من عذاب الله ، ولأحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح : الصيام جنة ما لم يخرقها ، زاد الدارمي بالغيبة ، والتفسيران متلازمان لأنه إذا كف نفسه عن المعاصي في الدنيا كان سترا له من النار ، وفي الإكمال : معناه يستر من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك ، وبالأخير جزم النووي ، وأشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره فقال : حسبك لكونه جنة من النار فضلا .

                                                                                                          وروى النسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة : " قلت : يا رسول الله مرني بأمر آخذه عنك ، قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له " ، وفي رواية : " لا عدل له " ، والمشهور عند الجمهور ترجيح [ ص: 292 ] الصلاة للحديث الصحيح : " واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة " ، ( فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ) بالمثلثة وتثليث الفاء أي لا يفحش ويتكلم بالكلام القبيح ، ويطلق أيضا على الجماع ومقدماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقا ، ويحتمل أن النهي لما هو أعم منها .

                                                                                                          ( ولا يجهل ) أي لا يفعل فعل الجهال كصياح وسفه وسخرية ونحو ذلك .

                                                                                                          وعن سعيد بن منصور من طريق أبي صالح عن أبي هريرة : " ولا يجادل " ، وهذه الثلاثة ممنوعة مطلقا لكنها تتأكد بالصوم ، ولذا قال القرطبي : لا يفهم من هذا إباحة ذلك في غير الصوم ، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم .

                                                                                                          قال الباجي : الجهل ضد العلم يتعدى بغير حرف جر ، والجهل ضد الحلم يتعدى بحرف الجر ، قال الشاعر :

                                                                                                          ألا لا يجهلن أحد علينا



                                                                                                          ( فإن ) بتخفيف النون وفي رواية : " وإن " بالواو ، ( امرؤ قاتله أو شاتمه ) ، قال عياض : قاتله دافعه ونازعه ويكون بمعنى شاتمه ولاعنه ، وقد جاء القتل بمعنى اللعن ، وفي رواية أبي صالح : فإن سابه أحد أو قاتله ، وفي رواية : فإن سابه أحد أو ماراه يعني جادله ، ولأحمد : فإن شاتمك أحد فقل إني صائم وإن كنت قائما فاجلس ، واستشكل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين مع أن الصائم مأمور بأن يكف نفسه عن ذلك .

                                                                                                          وأجاب الباجي بأن المفاعلة هنا للواحد كسافر ، أو المعنى : فإن أراد أن يشاتمه أو يقاتله أو إن وجدت منهما جميعا فليذكر الصوم ولا يستدم ذلك .

                                                                                                          وأجاب غيره بأن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها أي أن يتهيأ أحد لقتاله أو مشاتمته .

                                                                                                          ( فليقل : إني صائم إني صائم ) مرتين تأكيدا للانزجار منه أو ممن يخاطبه .

                                                                                                          قال ابن عبد البر : قيل : يقوله بلسانه للمشاتم والمقاتل أي وصومي يمنعني من ذلك ، ومعنى المقاتلة مقاتلته بلسانه ، وقيل : يقوله في نفسه أي فلا سبيل إلى شفاء غيظك ، ولا ينطق بأني صائم لما فيه من الرياء وإطلاع الناس عليه لأن الصوم من العمل الذي لا يظهر ، ولذا يجزي الله الصائم أجره بغير حساب انتهى .

                                                                                                          وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة ، ورجح النووي الأول في الأذكار ، وقال في شرح المهذب : كل منهما حسن والقول باللسان أقوى ولو جمعهما كان حسنا ، ونقل الزركشي : إن ذكرها في الحديث مرتين إشارة لذلك فيقولها بقلبه ليكف نفسه وبلسانه ليكف خصمه ، وقال الروياني : إن كان في رمضان فبلسانه وإلا ففي نفسه

                                                                                                          وادعى ابن العربي أن الخلاف في النفل أما الفرض فبلسانه قطعا ، وقال في المصابيح : الظاهر أن هذا القول علة لتأكيد المنع فكأنه يقول لخصمه : إني صائم تحذيرا وتهديدا بالوعيد المتوجه على من انتهك حرمة الصائم ، وتذرع إلى تنقيص أجره بإيقاعه في المشاتمة أو بذكر نفسه تشديد المنع المعلل [ ص: 293 ] بالصوم ، ويكون من إطلاق القول على الكلام النفسي ظاهر كون الصوم جنة أن يقي صاحبه من أن يؤذى كما يقيه أن يؤذي ، والحديث رواه البخاري وأبو داود عن عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك به ، وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية