الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني زياد عن مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يقول من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          706 702 - ( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يقول : من شهد العشاء ) حضرها وصلاها في جماعة ( من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها ) نصيبه من ثوابها المنوه به في القرآن ، وفي نحو قوله صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه " ، رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وزاد في سننه الكبرى : " وما تأخر " .

                                                                                                          وقال ابن عبد البر : قول ابن المسيب لا يكون رأيا ولا يؤخذ إلا توقيفا ومراسيله أصح المراسيل .

                                                                                                          وقال الباجي : هو بمعنى الحديث المتقدم : " من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة " ، وخصها لأنها من الليل دون الصبح فليس منه .

                                                                                                          وروى البيهقي عن أبي هريرة والطبراني عن أبي أمامة مرفوعا : " من صلى العشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر " ، وروى الخطيب عن أنس رفعه : " من صلى ليلة القدر العشاء والفجر في جماعة فقد أخذ من ليلة القدر بالنصيب الوافر " .

                                                                                                          وفي مسلم مرفوعا : " من يقم ليلة القدر فيوافقها غفر له ما تقدم من ذنبه " ، ولأحمد والطبراني عن عبادة مرفوعا : " فمن قامها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " .

                                                                                                          قال في شرح التقريب : معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك الليلة التي قام فيها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك .

                                                                                                          وقول النووي معنى الموافقة أن يعلم أنها ليلة القدر مردود ، وليس في اللفظ ما يقتضيه ولا المعنى يساعده .

                                                                                                          وقال الحافظ : الذي يترجح في نظري ما قاله النووي ، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغائها وإن لم يعلم بها ولم توفق له ، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به ، وقد أجمع من يعتد به على وجودها وبقائها إلى آخر الدهر لتظاهر الأحاديث وكثرة رؤية الصالحين لها ، وشذ الروافض والشيعة والحجاج الظالم الثقفي فقالوا : رفعت رأسا ، وكذا من قال : إنما كانت سنة واحدة [ ص: 327 ] في زمنه صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                          وقد روى عبد الرزاق عن أبي هريرة أنه قال : كذب من قال ذلك ، فلا ينبغي أن يعد هذان قولان أو قول ، ثم اختلف فيها على أربعين قولا فقال ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم في جميع السنة ، وهو قول مشهور للمالكية والحنفية وزيفه المهلب وقال : لعله بني على دوران الزمان لنقصان الأهلة وهو فاسد لأنه لم يعتبر في صيام رمضان فلا يعتبر في غيره حتى تنتقل ليلة القدر عن رمضان ، ورد بأن مأخذ ابن مسعود كما في مسلم عن أبي بن كعب أنه أراد أن لا يتكل الناس .

                                                                                                          وجاء عن ابن عمر مرفوعا في أبي داود وموقوفا عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنها مختصة برمضان ممكنة في غيره ، وبه جزم شارح الهداية عن أبي حنيفة وابن الحاجب رواية عن مالك ورجحه السبكي وعن أنس وأبي رزين أول ليلة من رمضان ، وحكى ابن الملقن ليلة نصفه ، والذي في المفهم وغيره ليلة نصف شعبان فإن ثبتا فهما قولان .

                                                                                                          وحكى ابن العربي عن قوم أنها معينة من رمضان في نفس الأمر مبهمة علينا .

                                                                                                          وعن زيد بن أرقم وابن مسعود ليلة سبع عشرة .

                                                                                                          وللطحاوي عن ابن مسعود وعبد الرزاق عن علي تسع عشرة .

                                                                                                          وحكى ابن الجوزي وغيره ثمان عشرة ، أو مبهمة في العشر الوسط أو أول ليلة من العشر الأخير ومال إليه الشافعي ، أو إن كان الشهر تاما فليلة عشرين وناقصا فإحدى وعشرين ، أو ليلة اثنين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان أو تسع وعشرين ، أو ليلة الثلاثين .

                                                                                                          قال عياض : ما من ليلة من العشر الأخير إلا وقيل إنها فيه أو في أوتار العشر الأخير لحديث عائشة وغيرها في هذا الباب ، قال الحافظ وهو أرجح الأقوال : أو في أوتاره بزيادة الليلة الأخيرة .

                                                                                                          رواه الترمذي من حديث أبي بكرة ، وأحمد من حديث عبادة ، أو تنتقل في العشر الأخير كله نص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق ، وزعم الماوردي الاتفاق عليه ، وكأنه أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير ثم اختلف في تعيينها منه ، ويؤيده حديث أبي سعيد الصحيح أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما اعتكف العشر الأوسط : إن الذي تطلب أمامك .

                                                                                                          ثم اختلف قائلوه هل هي محتملة فيه على السواء أو بعض لياليه أرجى ؟ ففي أنها إحدى أو ثلاث أو سبع أقوال ، أو تنتقل في السبع الأواخر ، أو تنتقل في النصف الأخير أو ليلة ست عشرة أو سبع عشرة ، أو ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى عشرة رواه سعيد بن منصور عن أنس بسند ضعيف .

                                                                                                          أو أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة رواه ابن مردويه عن أنس بإسناد ضعيف .

                                                                                                          أو ليلة تسع عشرة وإحدى عشرة أو ثلاث وعشرين رواه أبو داود عن ابن مسعود بإسناد فيه مقال ، وعبد الرزاق عن علي ، وسعيد بن منصور عن عائشة بسندين منقطعين ، أو ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين أخذا من قول ابن عباس سبع يبقين أو سبع يمضين .

                                                                                                          ولأحمد [ ص: 328 ] عن النعمان بن بشير سابعة تمضي أو سابعة تبقى ، قال النعمان : فنحن نقول ليلة سبع وعشرين وأنتم تقولون ليلة ثلاث وعشرين أو ليلة إحدى أو ثلاث أو خمس وعشرين ، أو منحصرة في السبع الأواخر من رمضان لحديث ابن عمر السابق ، أو ليلة اثنين أو ثلاث وعشرين لحديث عبد الله بن أنيس عند أحمد ، أو في أشفاع العشر الوسط والعشر الأخير أو ليلة الثالثة من العشر الأخير أو الخامسة منه رواه أحمد عن معاذ ، والفرق بينه وبين ما تقدم أن الثالثة تحتمل ليلة ثلاث وعشرين وتحتمل ليلة سبع وعشرين فينحل إلى أنها ليلة ثلاث أو خمس أو سبع وعشرين وبهذا غاير ما مضى ، أو في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني .

                                                                                                          روى الطحاوي عن عبد الله بن أنيس : " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال : تحرها في النصف الأخير " ثم عاد فسأله فقال : " إلى ثلاث وعشرين " ، فكان عبد الله يحيي ليلة ست عشرة إلى ثلاث وعشرين ثم يقصر ، أو في أول ليلة أو آخر ليلة أو الوتر من الليالي ، رواه أبو داود عن أبي العالية مرسلا

                                                                                                          أو ليلة أربع وعشرين أو سبع وعشرين نقله الطحاوي عن أبي يوسف ، فهذه الأقوال كلها متفقة على إمكان حصولها والحث على التماسها .

                                                                                                          وقال ابن العربي : الصحيح أنها لا تعلم وهذا يصلح عده قولا .

                                                                                                          وأنكره النووي وقال : قد تظاهرت الأحاديث بإمكان العلم بها وأخبر به جماعة من الصالحين فلا معنى لإنكاره .

                                                                                                          قال الحافظ : هذا ما وقفت عليه من الأقوال وبعضها يمكن رده إلى بعض ، وإن كان ظاهرها التغاير وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل كما يفهم من الأحاديث ، وأرجى أوتارها عند الشافعية إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين ، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين وبه جزم أبي بن كعب ، و حلف عليه كما في مسلم ، وفيه عن أبي هريرة : " تذاكرنا ليلة القدر فقال صلى الله عليه وسلم : أيكم يذكر حين طلع القمر كأنه شق جفنة " ، قال أبو الحسين الفارسي : أي ليلة سبع وعشرين فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة .

                                                                                                          وللطبراني عن ابن مسعود : " سئل صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال : أيكم يذكر ليلة الصهباوات ؟ قلت : أنا وذلك ليلة سبع وعشرين " .

                                                                                                          وفي مسلم عن ابن عمر : " رأى رجل ليلة القدر ليلة سبع وعشرين " ، ولأحمد عنه مرفوعا : " ليلة القدر ليلة سبع وعشرين " ، ولابن المنذر : " من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين " ، وعن جابر بن سمرة عند الطبراني ، ومعاوية عند أبي داود ونحوه ، وحكي عن أكثر العلماء .

                                                                                                          وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال : " دعا عمر الصحابة فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر ، فقلت لعمر : إني لأعلم أو أظن أي ليلة هي ، قال عمر : أي ليلة هي ؟ فقلت : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر ، فقال : من أين علمت ذلك ؟ فقلت : خلق الله سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام والدهر يدور في سبع ، والإنسان خلق من سبع ويسجد على سبع ، [ ص: 329 ] والطواف سبع ، والجمار سبع ، وإنا نأكل من سبع ، قال تعالى : ( فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا ) ( سورة عبس : الآية 27 ، 28 ) الآية ، قال : فالأب للأنعام والسبعة للإنس ، فقال عمر : تلوموني في تقريب هذا الغلام ؟ فقال ابن مسعود : لو أدرك أسناننا ما عاشره منا رجل ونعم ترجمان القرآن " ، وروى ابن راهويه والحكم عن ابن عباس : " أن عمر كان إذا دعا الأشياخ من الصحابة قال لابن عباس لا تتكلم حتى يتكلموا ، فقال ذات يوم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر وترا أي الوتر ، فقال رجل برأيه تاسعة سابعة خامسة ثالثة ، فقال لي : يا ابن عباس ما لك لا تتكلم ؟ قلت : أتكلم برأيي ؟ قال : عن رأيك أسألك ، فقلت : فذكر نحوه وفي آخره فقال عمر : أعجزتم أن تكونوا مثل هذا الغلام الذي ما استوت شئون رأسه ، وقال : إني لأرى القول كما قلت " ، وزاد محمد بن نصر في قيام الليل وإن الله جعل النسب في سبع ثم تلا : ( حرمت عليكم أمهاتكم ( سورة النساء : الآية 23 ) الآية ، وقيل استنبط ذلك من عدد كلمات السورة ، فإن قوله هي سابع كلمة بعد عشرين نقله ابن حزم عن بعض المالكية وبالغ في رده .

                                                                                                          وقال ابن عطية : إنه من ملح التفسير لا من متين العلم .

                                                                                                          قال العلماء : حكمة إخفائها ليجتهد في التماسها بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها ، وهذه الحكمة تطرد عند القائل أنها في جميع السنة أو جميع رمضان أو العشر الأخير أو أوتاره خاصة ، إلا أن يكون الأول ثم الثاني أليق به ، واختلف هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا ؟ فقيل : يرى كل شيء ساجدا ، وقيل : يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى الأماكن المظلمة ، وقيل : يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة ، وقيل : علامتها استجابة دعاء من وفقت له .

                                                                                                          واختار الطبري أن جميع ذلك غير لازم ، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه ، واختلف أيضا هل يحصل الثواب المترتب عليها لمن قامها وإن لم يظهر له شيء ؟ وذهب إليه الطبري والمهلب وابن العربي وجماعة ، أو يتوقف على كشفها له وإليه ذهب الأكثر ، ويدل له ما في مسلم عن أبي هريرة : من يقم ليلة القدر فيوافقها ، قال النووي : أي يعلم أنها ليلة القدر وهو أرجح في نظري .

                                                                                                          ويحتمل أن المراد في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك ، وفرعوا على اشتراط العلم أنه يختص بها شخص دون آخر وإن كانا في بيت واحد .

                                                                                                          وقال الطبري : في إخفائها دليل على كذب من زعم أنه يظهر للعيون ليلتها ما لا يظهر في سائر السنة ، إذ لو كان ذلك حقا لم يخف عن من قام ليالي السنة فضلا عن ليالي رمضان ، تعقبه الزين بن المنير بأنه لا ينبغي إطلاق التكذيب لذلك ، فيجوز أنها كرامة لمن شاء الله فيختص بها قوم دون قوم ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة ، وكانت في السنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر ، ونحن نرى كثيرا من السنين ينقضي رمضان دون مطر مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من [ ص: 330 ] ليلة القدر ، ولا يعتقد أنه لا يراها إلا من رأى الخوارق ، بل فضل الله واسع ، ورب قائم لم يحصل منها إلا على العبادة من غير رؤية خارق ، وآخر رأى الخوارق بلا عبادة ، والذي حصل له العبادة أفضل ، والعبرة إنما هي بالاستقامة لاستحالة أن تكون إلا كرامة بخلاف الخارق فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة انتهى .

                                                                                                          وقد ورد لها علامات أكثرها لا تقع إلا بعد أن تمضي ، منها ما في مسلم عن أبي بن كعب : " أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها " ، ولأحمد عنه : مثل الطست .

                                                                                                          وله عن ابن مسعود : مثل الطست صافية .

                                                                                                          ولابن خزيمة عن ابن عباس مرفوعا : " ليلة القدر طلقة لا حارة ولا باردة ، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة " ، ولأحمد عن عبادة مرفوعا : " أنها صافية بلجة كأن فيها قمرا ساطعا صاحية لا حر فيها ولا برد ، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها ، وإن أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس فيها شعاع مثل القمر ليلة البدر ، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ " ، ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود : " أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر " ، وله عن جابر مرفوعا : " ليلة القدر طلقة بلجة لا حارة ولا باردة ، تضيء كواكبها ، ولا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها " ، وله عن أبي هريرة مرفوعا : " أن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى " ، ولابن أبي حاتم عن مجاهد : " لا يرسل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء " ، وعن الضحاك : " يقبل الله التوبة فيها من كل تائب ، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها " ، وذكر الطبري عن قوم أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها ، وأن كل شيء يسجد فيها .

                                                                                                          وروى البيهقي عن أبي لبابة أن المياه المالحة تعذب ليلتها .

                                                                                                          ولابن عبد البر عن زهرة بن معبد نحوه ، والله أعلم .

                                                                                                          وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وأسأله العون على التمام خالصا لوجهه ، مقربا إلى دار السلام ، متوسلا بحبيبه خير الأنام .




                                                                                                          الخدمات العلمية