الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر

سوق هذه القصة وعيد لقريش وضرب مثل لهم، وقوله تعالى: "وازدجر" إخبار من الله تعالى أنهم زجروا نوحا عليه السلام بالسب والنجه والتخويف، قاله ابن زيد وقرأ: لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ، وذهب مجاهد إلى أن "وازدجر" [ ص: 142 ] من كلام قوم نوح، كأنهم قالوا: "مجنون وازدجر"، والمعنى: استطير جنونا واستعر جنونا، وهذا قول فيه تعسف وتحكم، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، والأعرج ، والحسن : "أني" بفتح الألف، أي: بأني،كأن دعاءه كان هذا المعنى، وقرأ عاصم أيضا، وابن أبي إسحاق وعيسى : "إني" بكسر الألف، كأن دعاءه كان هذا اللفظ، قال سيبويه : المعنى: قال إني، وذهب جمهور المفسرين إلى أن المعنى: أني قد غلبني الكفار بتكذيبهم وتخويفهم فانتصر لي منهم بأن تهلكهم، ويحتمل أن يريد: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك، ويؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما: إن المراد بقوله: لمن كان كفر الله تعالى، فوقعت الإجابة على نحو ما دعا نوح عليه السلام، وذهبت المتصوفة إلى أن المعنى: إني قد غلبتني نفسي في إفراطي في الدعاء على قومي فانتصر مني يا رب بمعاقبة إن شئت، والقول الأول هو الحق إن شاء الله تعالى، يدل على ذلك قوله تعالى: "ففتحنا" الآية، وذلك هو الانتصار من الكفار.

وقرأ جمهور القراء: "ففتحنا" بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، والأعرج : "ففتحنا" بشدها على المبالغة، ورجحها أبو حاتم بقوله تعالى: مفتحة لهم الأبواب . قال أبو حاتم : يعني بالأبواب المجرة، وهي شرج السماء كشرج العيبة، وقال قوم من أهل التأويل: الأبواب حقيقة، فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء، وقال جمهور المفسرين: هو تشبيه ومجاز، لأن المطر كثر كأنه من أبواب، و"المنهمر": الشديد الوقوع الغزير، قال امرؤ القيس:


راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر



[ ص: 143 ] وقرأ الجمهور: "وفجرنا" بشد الجيم، وقرأ ابن مسعود وأصحابه، وأبو حيوة، والمفضل عن عاصم بتخفيفها، وقرأ الجمهور: "فالتقى الماء" على اسم الجنس الذي يعم ماء السماء وماء العيون، وقرأ علي بن أبي طالب ، والحسن وعاصم ، والجحدري: "فالتقى الماءان"، ويروى عن الحسن: "فالتقى الماوان".

وقوله تعالى: على أمر قد قدر قال فيه الجمهور: المعنى: على رتبة وحالة قد قدرت في الأول وقضيت، وقال جمهور من المتأولين: المعنى: على مقادير قد قدرت ورتبت وقت التقائه، ورووا أن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا، وكان ماء السماء ينزل عليه بقية أربعين ذراعا أو نحو هذا لأنه مما اختلفت فيه الروايات، ولا خبر يقطع العذر في شيء من هذا التحديد، وقرأ أبو حيوة: "قدر" بشد الدال.

و"ذات ألواح ودسر" هي السفينة، قيل: كانت ألواحها وخشبها من ساج. و"الدسر": المسامير، واحدها دسار، وهذا هو قول الجمهور، وهو عندي من الدفع المتتابع; لأن المسمار يدفع أبدا حتى يستوي، وقال الحسن، وابن عباس أيضا: الدسر مقادم السفينة لأنها تدسر الماء أي تدفعه، والدسر: الدفع، وقال مجاهد وغيره: الدسر: نطق السفينة، وقال أيضا: الدسر: هو عوارض السفينة، وقال أيضا: أضلاع السفينة، وقد تقدم القول في شرح قصة السفينة مستوعبا. وجمهور الناس على أنها كانت كهيئة السفن اليوم كجؤجؤ الطائر، وورد في بعض الكتب أنها كانت مربعة طويلة في السماء واسعة السفل ضيقة العلو، وكان أعلاها مفتوحا للهواء والتنفس، قالوا: لأن الغرض منها إنما كانت السلامة حتى ينزل الماء، ولم يكن طلب الجري [ ص: 144 ] وقصد المواضع المعينة، ومع هذه الهيئة فلها مجرى ومرسى، والله أعلم كيف كانت، والجميع محتمل.

قوله تعالى: "بأعيننا"، قال الجمهور: معناه: بحفظنا وكفايتنا وتحت نظر منا لأهلها، فسمى هذه الأشياء أعينا تشبيها، إذ الحافظ المتحفي من البشر إنما يكون ذلك الأمر نصب عينه، وقيل: المراد من حفظها من الملائكة، سماهم عيونا، وقال الرماني : وقيل: إن قوله تعالى: "بأعيننا" يريد به العيون المتفجرة من الأرض، وهذا ضعيف. وقرأ أبو السمال: "بأعينا" مدغمة، وقرأ جمهور الناس: "كفر" بضم الكاف وكسر الفاء، واختلفوا في المعنى، فقال ابن عباس ، ومجاهد : يراد بها الله تعالى،كأنه قال: غضبا وانتصارا لله تعالى، أي: انتصر لنفسه فأنجى المؤمنين وأغرق الكافرين، وقال مكي : وقيل: "من"، يراد بها نوح عليه السلام والمؤمنون; لأنهم كفروا من حيث كفر بهم، فجازاهم الله تعالى بالنجاة. وقرأ يزيد بن رومان، وعيسى ، وقتادة : "كفر" بفتح الكاف والفاء.

والضمير في "تركناها" قال مكي بن أبي طالب : هو عائد على هذه الفعلة والقصة، وقال قتادة ، والنقاش ، وغيرهما: هو عائد على هذه السفينة، قالوا: وإن الله تعالى أرساها على الجودي حين تطاولت الجبال وتواضع هو، وهو جبيل بالجزيرة بموضع يقال له "باقردى"، وأبقى خشبها هنالك حتى رأت بعضه أوائل هذه الأمة، قال قتادة : وكم من سفينة كانت بعدها صارت رمادا.: و"مدكر" أصله "مذتكر"، أبدلوا من التاء ذالا ليناسب الذال في النطق، ثم أدغموا الدال في الدال، وهذه قراءة الناس، قال أبو حاتم : رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، وقرأ قتادة : "مذكر" بإدغام الثاني في الأول، قال أبو حاتم : وذلك رديء، ويلزمه أن يقرأ: "واذكر بعد أمة"، و"وما تذخرون في بيوتكم".

[ ص: 145 ] وقوله تعالى: فكيف كان عذابي ونذر توقيف لقريش، و"النذر" هنا جمع "نذير" المصدر، بمعنى: كيف كان عاقبة إنذاري لمن لم يحفل به كأنتم أيها القوم؟.

و"يسرنا القرآن" معناه: سهلناه وقربناه، و "الذكر": الحفظ عن ظهر قلب، قال ابن جبير : لم يستظهر من كتب الله سوى القرآن.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

يسر بما فيه من حسن النظم وشرف المعنى، فله لوطة بالقلوب وامتزاج بالعقول السليمة.

وقوله تعالى: فهل من مدكر استدعاء وحض على حفظه وذكره لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس، قال مطرف : معناه: هل من طالب علم فيعان عليه؟.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

الآية تعديد نعمة في أن الله تبارك وتعالى يسر الهدى ولا بخل من قبله، فلله در من قبل واهتدى، وتقدم تعليل: "مدكر".

التالي السابق


الخدمات العلمية