الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي ، عقلي أو شرعي . ومعناه أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل ، وهو معنى قولهم : الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل ، فمن ادعاه فعليه البيان ، كما في الحسيات أن الجوهر إذا شغل المكان يبقى شاغلا إلى أن يوجد المزيل ، مأخوذ من المصاحبة ، وهو ملازمة ذلك الحكم ما لم يوجد مغير ، فيقال : الحكم الفلاني قد كان فلم نظنن عدمه ، وكل ما كان كذلك فهو مظنون .

                                                      [ ص: 14 ] البقاء . قال الخوارزمي في الكافي " : وهو آخر مدار الفتوى ، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ، ثم في السنة ، ثم في الإجماع ، ثم في القياس ، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات ، فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه ، وإن كان في ثبوته فالأصل عدم ثبوته . انتهى . وهو حجة يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حجة خاصة . وبه قال الحنابلة والمالكية وأكثر الشافعية والظاهرية ، سواء كان في النفي أو الإثبات . والنفي له حالتان ، لأنه إما أن يكون عقليا أو شرعيا ، وليس له في الإثبات إلا حالة واحدة ، وهي النفي ، لأن العقل لا يثبت حكما وجوديا عندنا . والمذهب الثاني : ونقل عن جمهور الحنفية والمتكلمين ، كأبي الحسين البصري رحمه الله ، أنه ليس بحجة لأن الثبوت في الزمان يفتقر إلى الدليل فكذلك في الزمان الثاني ، لأنه يجوز أن يكون وأن لا يكون ، ويخالف الحسيات ، لأن الله أجرى العادة فيها بذلك ، ولم تجر العادة في الشرعيات فلا تلحق بها . ثم منهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي ومنهم من نقل الخلاف مطلقا . قال الهندي : وهو يقتضي الخلاف في الوجودي والعدمي جميعا لكنه بعيد ، إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة .

                                                      [ ص: 15 ] قلت : والمنقول في كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حجة على الغير ، ولكن يصلح للعذر والدفع . وقال صاحب الميزان " من الحنفية : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس بحجة لإبقاء ما كان ولا لإثبات أمر لم يكن . وقال أكثر المتأخرين : إنه حجة يجب العمل به في نفسه لإبقاء ما كان ، حتى لا يورث ماله ، ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن ، كحياة المفقود لما كان الظاهر بقاءها صلحت حجة لإبقاء ما كان حتى لا يرث من الأقارب ، والثابت لا يزول بالشك . وغير الثابت لا يثبت بالشك قال : ولكن مشايخنا قالوا : إن هذا القسم يصبح حجة على الخصم في موضع النظر ، ويجب العمل به عند عدم الدليل ، ولا يجوز تركه بالقياس ، كذا ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي ، لأن الحكم متى ثبت شرعا فالظاهر دوامه ولا يزول إلا بدليل يرجح على الأول ، وإن أوجب في الأول شبهة ، ولهذا قالوا : لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ، لأن الحكم الثابت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في حق كل من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مع احتماله النسخ إذ ذاك ، وهذا كمن شك في الحدث بعد الوضوء فإن يبني على الطهارة مع احتمال الحدث ، وكمن شك في طلاق امرأته وعتق أمته فإنه يباح له الانتفاع بهما مع الاحتمال ، لأن الثابت لا يزول بالشك انتهى .

                                                      [ ص: 16 ] وما ذكروه من أنه يصلح للدفع لا للرفع يشبه قول أصحابنا في مسائل كثيرة عملوا فيها بالأصلين ، كوجوب الفطرة عن العبد المنقطع الخبر ، وعدم جواز عتقه عن الكفارة ، وكما إذا ظهر لبنت تسع سنين لبن فارتضع منه صغير حرم ولا يحكم ببلوغها ، لأن احتمال البلوغ قائم والرضاع كالنسب يكفي فيه الاحتمال . والمذهب الثالث : واختاره القاضي في التقريب " أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله تعالى فإنه لم يكلف إلا أقصى الداخل في مقدوره على العادة ، فإذا فعل ذلك ولم يجد دليلا آخر يبقى الوجوب ولا يسمع فيه إذا انتصب مسئولا في مجلس المناظرة ، فإن المجتهدين إذا تناظروا وتذكروا طرق الاجتهاد فيما يغني المجيب قوله : لم أجد دليلا على الوجوب ، وهل هو إلا مدع فلا يسقط عنه عهدة الطلب بالدلالة .

                                                      المذهب الرابع : أنه يصلح للدفع لا للرفع . وهو المنقول عن أكثر الحنفية فيما سبق . قال إلكيا : ويعبرون عن هذا بأن استصحاب الحال صالح لإبقاء ما كان على ما كان ، إحالة على عدم الدليل ، لا لإثبات أمر لم يكن . وبنوا على هذا مسائل : ( منها ) ما لو شهد شاهدان أن الملك كان للأب المدعى ، والأب ميت ، فإنها لا تقبل عن أبي حنيفة ، لأن الملك ثبت لا بهذه الشهادة ، والبقاء بعد الثبوت إنما يكون باستصحاب الحال فيثبت دفعا عن المشهود عليهم بحق الشهادة ، فإنه كان أحد المدعيين ، فأما لإيجاب حكم مبتدأ فلا ، وملك الوارث لم يكن ، وعلى هذا قالوا : المفقود لا يرث أباه ، وإن كان الملك ذلك الملك بعينه ، لأن الملك غير الأول قال : ونحن نسلم لهم أن دلالة الثبوت غير دلالة البقاء ، لأن أحدهما نص والآخر ظاهر ، ولكن لا نقول : البقاء لعدم المزيل ، بل لبقاء الدليل الظاهر عليه . وهذا لا يجوز أن يكون فيه خلاف . انتهى .

                                                      المذهب الخامس : أنه يجوز الترجيح به لا غير . نقله [ ص: 17 ] الأستاذ أبو إسحاق عن الشافعي وقال : إنه الذي يصح عنه لا أنه يحتج به ، قلت : ويشهد له قول الشافعي رضي الله عنه : والنساء محرمات الفروج ، فلا يحللن إلا بأحد أمرين : نكاح ، أو ملك يمين ، والنكاح ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم . قال الروياني في البحر " : وهذا استدلال من الشافعي باستصحاب الحال في جميع هذه المسائل . وقيل : إنه نوع من أنواعه وهو من أقواها ، قال : وأجمع أصحابنا على أن الاستصحاب صالح للترجيح ، واختلفوا في استصلاحه للدليل فظاهر كلام الشافعي أنه قصد به الترجيح وهو الظاهر من المذهب . هذا كلام الروياني ، وسيأتي أن هذا الاستدلال من النوع الذي هو محل وفاق ، وقال بعض المتأخرين من أصحابنا : استقرأت الاستصحاب الذي يحكم به الأصحاب فوجدت صورا كثيرة وإنما يستصحب فيها أمر وجودي ، كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث وعكسه . وأما استصحاب عدم الحكم فيه فلم أعرفه ، وبراءة الذمة ونحوها من الأمور العدمية لا علم فيها . وإنما يمنع من الحكم بخلافها حتى يقوم دليل عليه . المذهب السادس : أن المستصحب للحال إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه صح استصحابه ، كمن استدل على إبطال بيع الغائب ، ونكاح المحرم ، والشغار ، بأن الأصل أن لا عقد ، فلا يثبت إلا بدلالة . وإن كان غرضه إثبات خلاف قول خصمه من وجه يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فليس له الاستدلال به كمن يقول في مسألة الحرام : إنه يمين توجب الكفارة لم يستدل على إبطال قول خصومه بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان ، فيتعارض بالأصل أن لا يمين ولا كفارة ، فيتعارض الاستصحابان ويسقطان . حكاه الأستاذ أبو منصور البغدادي عن بعض أصحابنا . إذا عرف هذا فلا بد من تنقيح موضع الخلاف ، فإن أكثر الناس يطلقه ويشتبه عليهم موضع النزاع بغيره فنقول : للاستصحاب صور : [ ص: 18 ] إحداها : استصحاب دل العقل أو الشرع على ثبوته ودوامه : كالملك عند جريان القول المقتضي له ، وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام ، ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح . وهذا لا خلاف في وجوب العمل به ، إلى أن يثبت معارض له . ومن صوره تكرر الحكم بتكرر السبب . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية