الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها لا ليتزود منها ولا ليستعين بها على الآخرة فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة .

فإن من فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته .

وهمة الرجل مع قرة عينه فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة ورد القلب إلى الصلاة وتقليل الأسباب الشاغلة فهذا هو الدواء المر ولمرارته استبشعته الطباع وبقيت العلة مزمنة وصار الداء عضالا حتى إن الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدثوا أنفسهم فيها بأمور الدنيا فعجزوا عن ذلك فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوسواس لنكون ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا .

وعلى الجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء بخل فبقدر ما ندخل فيه من الماء يخرج منه من الخل لا محالة ولا يجتمعان .

التالي السابق


قلت: وسيأتي للمصنف في موضعه من هذا الكتاب رفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأورد بعده كلاما وسنشرحه هناك إن شاء الله تعالى، وكان الربيع بن خثيم يقول: أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم يدخل حب الآخرة. وقال آخر: ليس خيركم من ترك من هذه لهذه، بل خيركم من أخذ من هذه لهذه، (ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها) باختياره وطواعية نفسه (لا للتزود منها ولا ليستعين به على الآخرة) ، وفي بعض النسخ: لا ليستعين به على الآخرة، ويتزود إليها، (فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة) مع ربه، (فإن من فرح بالدنيا) بأن اطمأن به إليها، وألقى شراشيره عليها (لا يفرح بالله تعالى وبمناجاته) ، فإنه من أمور الآخرة، وهما ضرتان لا يجتمعان، إن دخلت هذه خرجت الأخرى، وبالعكس (وهمة الرجل مع قرة عينه) ، أي: فيما تقر به عينه، (فإن كانت قرة عينه في الدنيا) ، أي: في حصول أمورها (انصرف لا محالة إليها همه) ، ولذلك أشار -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، أن هذا الوصف ليس من أمور الدنيا، وذلك لأنه ميزها من قوله: "حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء"؛ لأنه كان في مشاهدة ربه، فجعل قرة عينه بها؛ لأنها من أمور الآخرة، وسيأتي لذلك تحقيق، (ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك) المصلي (المجاهدة) مع نفسه، (و) لا يترك (رد القلب إلى الصلاة) على قدر جهده وطاقته، (و) لا يترك (تقليل الأسباب [ ص: 132 ] الشاغلة) له عنها، (وهذا هو الدواء المر) الطعم، البشع الرائحة الكريه اللذة (ولمرارته) وبشاعته (استبشعته الطباع) ، أي: عدته بشعا، وفي نسخة: استبشعه أكثر الطباع، (وبقيت العلة) المذكورة (مزمنة) أي: دائمة زمانا طويلا، (وصار الداء عضالا) بالضم، أي: شديدا، أعيت الأطباء عن معالجته (حتى إن الأكابر) من العارفين بالله تعالى (اجتهدوا) ، وفي نسخة: اجتهد بعضهم، (أن يصلوا) ، وفي نسخة: أن يصلي، (ركعتين لا يحدثوا) ، وفي نسخة: لا يحدث (أنفسهم) ، وفي نسخة: نفسه، (فيهما بأمور الدنيا) ، وفي نسخة: بشيء من أمر الدنيا، (فعجزوا عن ذلك) .

وقد قال صاحب القوت ورفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". (فلا مطمع) ، وفي نسخة: فإذا لا مطمع (فيه لأمثالنا) من القاصرين عن بلوغ هذه الدرجة، (وليته سلم لنا من الصلاة) ، وفي نسخة من صلاتنا (شطرها) ، أي: بعضها أو نصفها، (أو ثلثها من الوسواس) ، وفي نسخة: عن الوساوس، (لنكون ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا) ، فعسى أن نكون بذلك من المفلحين، (وبالجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة) تواردهما (في القلب) معا (مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء بحل) ، وفي نسخة: مثل الذي يصب الماء في قدح فيه حل، والحل بالحاء المهملة الشيرج، وغالب النسخ هنا بالخاء المعجمة وهو غلط، (فبقدر ما يدخل فيه من الماء يخرج منه من الحل ولا يجتمعان) ، ولذا قال الربيع بن خثيم: أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم يدخل حب الآخرة، نسأل الله التوفيق .




الخدمات العلمية