الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما رواية الأثرم عن أحمد أنه لا يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر ويعمل به ، فهذه رواية انفرد بها الأثرم ، وليست في مسائله ، ولا في كتاب السنة ، وإنما حكاها القاضي أنه وجدها في كتاب معاني الحديث ، والأثرم لم يذكر أنه سمع ذلك منه بل [ ص: 559 ] لعله بلغه عنه من واهم وهم عليه في لفظه ، فلم يرو عنه أحد من أصحابه ذلك ، بل المروي الصحيح عنه أنه جزم على الشهادة للعشرة بالجنة ، والخبر في ذلك خبر واحد ، ولعل توقفه عن الشهادة على سبيل الورع ، فكان يجزم بتحريم أشياء ، ويتوقف عن إطلاق لفظ تحريم عليها ، ويجزم بتحريم أشياء ويتوقف عن إطلاق لفظ الوجوب عليها تورعا ، بل يقول : أكره كذا وأستحب كذا ، وهذا كثير في أجوبته .

وقد قال في موضع : ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث فنصدقه ونعلم أنه كما جاء ولا ننص الشهادة ، ولا نشهد على أحد أنه في الجنة لصالح عمله ولخير أتاه ، إلا أن يكون في ذلك حديث فنقبله كما جاء على ما روي ولا ننص ، قال القاضي : ولا ننص الشهادة ، معناه عندي ولا نقطع على ذلك .

قال شيخ الإسلام : لفظ " ننص " هو المشهود عليه معناه لا نشهد على المعين ، وإلا فقد قال : نعلم أنه كما جاء ، وهذا يقتضي أنه يفيد العلم .

وأيضا فإن من أصله أنه يشهد للعشرة بالجنة للخبر الوارد ، وهو خبر واحد ، وقال أشهد وأعلم واحد ، وهذا دليل على أنه يشهد بموجب خبر واحد ، وقد خالفه ابن المديني وغيره .

قال ابن المديني يقولون : أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد العلم ، قال الله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .

وقال تعالى آمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي وقال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم قالوا : فعلم أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله ، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله ، وقد قال تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة فالكتاب القرآن ، والحكمة السنة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني أوتيت الكتاب ومثله معه " فأخبر أنه أوتي السنة كما أوتي الكتاب ، والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه ليقيم به حجته على العباد [ ص: 560 ] إلى آخر الدهر ، وقالوا : فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذبا لم تكن من عند الله ولا كانت مما أنزله الله على رسوله وآتاه إياه تفسيرا لكتابه وتبيينا له ، وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذبا في نفس الأمر ، فإن السنة تجرى مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد ، فهي التي تعرفنا مراد الله من كتابه ، فلو جاز أن تكون كذبا وغلطا لبطلت حجة الله على العباد ، ولقال كل من احتج عليه بسنة تبين القرآن وتفسره : هذا في خبر واحد لا يفيد العلم فلا تقوم علي حجة بما لا يفيد العلم ، وهذا طرد هذا المذهب الفاسد ، وأطرد الناس له أبعدهم عن العلم والإيمان .

والذي جاء يقضي منه العجب أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لا تفيد العلم ، ويرجعون إلى الخيالات الذهنية والشبهات الباطلة التي تلقوها عن أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال ، ويزعمون أنها براهين عقلية .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية وقد قسم الأخبار إلى تواتر وآحاد فقال بعد ذكر التواتر : وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتوافر لفظه ولا معناه ، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له كخبر عمر بن الخطاب " إنما الأعمال بالنيات " وخبر ابن عمر " نهى عن بيع الولاء وهبته " وخبر أنس دخل مكة على رأسه المغفر ، وكخبر أبي هريرة " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " وكقوله " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وقوله : [ ص: 561 ] " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل " وقوله في المطلقة ثلاثا " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " وقوله " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " وقوله " إنما الولاء لمن أعتق " وقوله يعني ابن عمر " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر في رمضان على الصغير والكبير والذكر والأنثى " وأمثال ذلك ، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين .

أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة ، والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية ، والشافعية والحنبلية مثل السرخسي وأبي بكر الرازي من الحنفية ، والشيخ أبي حامد وأبي الطيب والشيخ أبي إسحاق من الشافعية ، وابن خواز منداد وغيره من المالكية ، ومثل القاضي وأبي يعلى وابن موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية ، ومثل أبي إسحاق الاسفراييني وابن فورك وأبي إسحاق النظام من المتكلمين .

وإنما نازع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل ، وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح القول الأول وصححه واختاره ، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم ، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة ، وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو انفرد به عن الجمهور ، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب ، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى سيف الآمدي وإلى الخطيب ، فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني .

[ ص: 562 ] قال : وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو ، والحجة على قول الجمهور ، أن تلقي الأمة للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم ، والأمة لا تجتمع على ضلالة كما لو اجتمعت على موجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس فإنها لا تجتمع على خطأ ، وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ فإن العصمة تثبت بالنسبة الإجماعية ، كما أن خبر التواتر يجوز الخطأ والكذب على واحد من المخبرين بمفرده ، ولا يجوز على المجموع ، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " فجعل تواطؤ الرؤيا دليلا على صحتها . والآحاد في هذا الباب قد تكون ظنونا بشروطها ، فإذا قويت صارت علوما ، وإذا ضعفت صارت أوهاما وخيالات فاسدة .

قال أيضا فلا يجوز أن يكون في نفس الأمر كذبا على الله ورسوله وليس في الأمة من ينكره إذ هو خلاف ما وصفهم الله تعالى به .

فإن قيل : أما الجزم بصدقه فلا يمكن منهم ، وأما العمل به وهو الواجب عليهم وإن لم يكن صحيحا في الباطن ، وهذا سؤال ابن الباقلاني .

قلنا : أما الجزم بصدقه فإنه قد يحتف به من القرائن ما يوجب العلم ، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها ، فكيف إذا احتفت بالخبر ، والمنازع بنى على هذا أصله الواهي أن العلم بمجرد الأخبار لا يحصل إلا من جهة العدد ، فلزمه أن يقول ما دون العدد لا يفيد أصلا ، وهذا غلط خالفه فيه حذاق أتباعه ، وأما العمل به فلو جاز أن يكون في الباطن كذبا وقد وجب علينا العمل به لانعقد الإجماع على ما هو كذب وخطأ في نفس الأمر ، وهذا باطل ، فإذا كان تلقي الأمة له يدل على صدقه لأنه إجماع منهم على أنه صدق مقبول فإجماع السلف والصحابة أولى أن يدل على صدقه ، فإنه لا يمكن أحد أن يدعي إجماع الأمة إلا فيما أجمع عليه سلفها من الصحابة والتابعين ، وأما بعد ذلك فقد انتشرت انتشارا لا تضبط أقوال جميعها .

قال : واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكره الشيخ أبو عمرو ومن قبله من العلماء كالحافظ أبي طاهر السلفي وغيره ، فإن ما تلقاه أهل [ ص: 563 ] الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين ، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين ، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم ، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء ، كذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله ، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم ، الضابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوالهم متبوعيهم .

فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص ، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوما لغيرهم فضلا أن يتواتر عندهم ، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به ألبتة ، فخبر أبي بكر وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق عندهم بقسم الضروريات ، وعند الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علما ، وكذلك يعلمون بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ، وعند الجهمية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك ، ويعلمون بالضرورة أن نبيهم صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروج قوم من النار بالشفاعة ، وعند المعتزلة والخوارج لم يقل ذلك وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة قاطعون بصحتها عنه ، وغيرهم لا علم عنده بذلك ، والمقصود أن هذا القسم من الأخبار يوجب العلم عند الجمهور العقلاء .

وأما خبر الواحد الذي أوجبت الشريعة تصديق مثله والعمل به بأن يكون خبر عدل معروف بالصدق والضبط والحفظ ، فهذا في إفادته للعلم قولان ، هما روايتان منصوصتان عن أحمد :

أحدهما : إنه يفيد العلم أيضا وهو أحد الروايتين عن مالك ، اختاره جماعة من أصحابه منهم محمد بن خواز منداد ، واختاره جماعة من أصحاب أحمد منهم ابن أبي موسى وغيره ، واختاره الحارث المحاسبي وهو قول جمهور أهل الظاهر وجمهور أهل الحديث ، وعلى هذا فيحلف على مضمونه ويشهد به .

والقول الثاني : إنه لا يوجب العلم وهو قول جمهور أهل الكلام وأكثر المتأخرين من الفقهاء وجماعة من أهل الحديث ، وعلى هذا فلا يحلف على مضمونه ولا يشهد [ ص: 564 ] به ، وقد حلف الإمام على كثير من مضمون كثير من الأخبار الآحاد حلف على البت ، وأهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمخبر هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين ، بل يقولون ذلك لأمر يرجع إلى المخبر وأمر يرجع إلى المخبر عنه وأمر يرجع إلى المخبر به ، وأمر يرجع إلى المخبر المبلغ .

فأما ما يرجع إلى المخبر فإن الصحابة الذين بلغوا الأمة سنة نبيهم كانوا أصدق الخلق لهجة ، وأعظمهم أمانة وأحفظهم لما يسمعونه ، وخصهم الله تعالى من ذلك بما لم يخص به غيرهم ، فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة ، ثم ازدادوا بالإسلام قوة في الصدق والأمانة ، وكان صدقهم عند الأمة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم عن نبيهم أمرا معلوما لهم بالاضطرار ، كما يعلمون إسلامهم وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصديق وأصحابه لا يقاس بخبر من عداهم ، وحصول الثقة بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم من سائر الخلق بعد الأنبياء .

فقياس خبر الصديق على خبر آحاد المخبرين من أفسد قياس في العالم ، وكذلك الثقات العدول الذين رووا عنهم هم أصدق الناس لهجة وأشدهم تحريا للصدق والضبط حتى لا تعرف في جميع طوائف بني آدم أصدق لهجة ولا أعظم تحريا للصدق منهم ، وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل يقيسون خبر الصديق والفاروق وأبي بن كعب بأخبار آحاد الناس ، مع ظهور الفرق المبين بين المخبرين ، فمن أظلم ممن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من أفراد الناس في عدم إفادة العلم ، وهذا بمنزلة من سوى بينهم في العلم والدين والفضل .

وأما ما يرجع إلى المخبر عنه فإن الله سبحانه تكفل لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر دينه على الدين كله ، وأن يحفظه حتى يبلغه الأول لمن بعده فلا بد أن يحفظ الله سبحانه حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه وبيناته ، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد مماته وبين حاله للناس ، قال سفيان بن عيينة : ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث ، قال عبد الله بن المبارك : لو هم رجل أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون فلان كذاب .

وقد عاقب الله الكاذبين عليه في حياتهم بما جعلهم به نكالا وعبرة حفظا لوحيه ودينه ، وقد روى أبو القاسم البغوي حدثنا بن عبد الحميد الحماني حدثنا علي بن [ ص: 565 ] مسهر عن صالح بن حيان عن بريدة عن أبيه قال : جاء رجل في جانب المدينة فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في أموالكم وفي كذا وكذا ، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ، ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كذب عدو الله ، ثم أرسل رجلا فقال : إن وجدته حيا فاقتله فإن أنت وجدته ميتا فأحرقه بالنار ، فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه بالنار ، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "

وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الوزعى عن أبي سلمة عن أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " وذلك أنه بعث رجلا فكذب عليه فوجد ميتا قد انشق بطنه ولم تقبله الأرض .

فالله سبحانه لم يقر من كذب عليه في حياته وفضحه ، وكشف ستره للناس بعد مماته .

وأما ما يرجع إلى المخبر به فإنه الحق المحض وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلامه وحي فهو أصدق ، وأحق الحق بعد كلام الله ، فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذي عقل صحيح ، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه ، والحق عليه نور ساطع يبصره ذو البصيرة السليمة ، فبين الخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهار والضوء والظلام ، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره من الكلام الصدق ، فكيف نسبته بالكذب ، ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره وسنته ، ومن سواهم في عمى عن ذلك ، فإذا قالوا : أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم أنهم لم يستفيدوا منها العلم ، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم ، كاذبون في إخبارهم أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة .

وأما ما يرجع إلى المخبر فالمخبر نوعان : نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم وتحريهم للصدق والضبط ، وكونهم أبعد خلق الله عن الكذب وعن الغلط [ ص: 566 ] والخطأ فيما نقلوه إلى الأمة وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول ، وتلقته الأمة ، عنهم كذلك ، وقامت شواهد صدقهم فيه ، فهذا المخبر يقطع بصدق المخبر ويفيده خبره العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته ، ونوع لا علم لهم بذلك ، وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك ، فهؤلاء قد لا يفيدهم خبرهم اليقين ، فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر وانضاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه ، أفاد ذلك علما ضروريا بصحة تلك النسبة ، وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل مبرز في الصدق والتحفظ ، عن رجل معروف بغاية الإحسان والجود أنه سأله رجل معدم فقير ما يغنيه ؟ فأعطاه ذلك ، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير ، فكيف إذا تعدد المخبرون عنه وكثرت رواياتهم وأحاديثهم بطرق مختلفة ، وعطايا متنوعة في أوقات متعددة .

التالي السابق


الخدمات العلمية