الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ونشتغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق أن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم ، وهذا رأي سمعت به المبتدعة في رد الأخبار فنقول وبالله التوفيق : إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتلقته الأمة بالقبول ، فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم ، هذا قول العامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة .

وأما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال فلا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به حتى أخبر عنه القدرية والمعتزلة ، وكان قصدهم منه رد الأخبار ، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول ، ولو أنصف أهل الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد قد يوجب العلم ، فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق [ ص: 586 ] منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد : ترى أصحاب القدر يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة " وبقوله : " خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " وترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله : " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " قيل : " وإن زنى وإن سرق ؟ " قال : " وإن زنى وإن سرق " وترى الرافضة يحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم : " يجاء بقوم من أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم " وترى الخوارج يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وبقوله : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "

إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق ، ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها ، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد ، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموحدين من المذنبين من النار ، وفي صفة الجنة والنار وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، وفي فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين وأخبار الرقاق وغيرها ما يكثر ذكره .

وهذه الأشياء علمية لا عملية ، وإن ما تروى لوقوع العلم للسامع بها ، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم ، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحدا شيئا ولا ينفعه ، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه .

[ ص: 587 ] قال : وربما يرتقي هذا القول إلى أعظم من هذا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من الصحابة ، وهذا الواحد يؤديه إلى الأمة وينقله عنه ، فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي نعوذ بالله من هذا القول البشع والاعتقاد القبيح .

قال : ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الرسل إلى الملوك إلى كسرى وقيصر وملك الإسكندرية وإلى أكيدر دومة وغيرهم من ملوك الأطراف يكتب إليهم كتبا على ما عرف ونقل واشتهر ، وإنما بعث واحدا واحدا ، ودعاهم إلى الله تعالى والتصديق برسالته صلى الله عليه وسلم لإلزام الحجة وقطع العذر لقوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذه المعاني لا تحصل إلا بعد وقوع العلم ممن أرسل إليه بالإرسال والمرسل ، وأن الكتاب من قبله والدعوة منه ، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة كثيرا من الرسل إلى هؤلاء الملوك والكتاب إليهم لبث الدعوة إليهم في جميع الممالك ، ودعا الناس إلى دينه على حسب ما أمره الله تعالى بذلك ، فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من الصحابة ، منها إنه بعث عليا لينادي في موسم الحج بمنى " ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فمدته إلى أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة .

ولا بد في هذه الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كان يناديهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد سماع هذا القول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبسوطا للعذر في قتالهم وقتلهم .

وكذلك بعث معاذا إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم إذا أجابوا شرائعه .

وبعث إلى أهل خيبر في أمر القتيل واحدا يقول : إما أن تدوا وإما أن تؤذنوا بحرب من الله ورسوله ، وبعث إلى قريظة أبا لبابة بن عبد المنذر يستنزلهم على حكمه ، وجاء أهل قباء واحد وهم في مسجدهم يصلون فأخبرهم بصرف القبلة إلى المسجد الحرام فانصرفوا إليه في صلاتهم ، واكتفوا بقوله ، ولا بد في مثل هذا من وقوع العلم به .

[ ص: 588 ] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الطلائع والجواسيس في بلاد الكفر ويقتصر على الواحد في ذلك ويقبل قوله إذا رجع ، وربما أقدم عليهم بالقتل والنهب بقوله وحده ، ومن تدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته لم يخف عليه ما ذكرناه ، وما يرد هذا إلا مكابر ومعاند .

ولو أنك وضعت في قلبك أنك سمعت الصديق والفاروق رضي الله عنهما أو غيرهما من وجوه الصحابة يروي لك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الاعتقاد من جواز الرؤية على الله وإثبات القدر أو غير ذلك لوجدت قلبك مطمئنا إلى قوله لا يداخلك شك في صدقه وثبوت قوله ، وفي زماننا ترى الرجل يسمع من أستاذه الذي يختلف إليه ويعتقد فيه التقدمة والصدق إنه سمع أستاذه يخبر عن شيء من عقيدته التي يريد أن يلقى الله بها ، فيحصل للسامع علم بمذهب من نقل عنه أستاذه ذلك بحيث لا يختلجه شبهة ولا يعتريه شك ، وكذلك كثير من الأخبار التي يقتضيها العلم توجد بين الناس فيحصل لهم العلم بذلك الخبر ومن رجع إلى نفسه علم بذلك .

قال : واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب والظن فللتجوز فيه مدخل ، ولكن هذا الذي قلناه لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلا بالحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة ، ليقف على رسوخهم في هذا العلم وكبير معرفتهم به وصدق ورعهم في أقوالهم وأفعالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر ، والبحث عن أحوال الرواة والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها ، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة واحدة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك ، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم وأدوا كما أدي إليهم ، وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن ما يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر ، وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ، ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه .

قال : والذي يزيد ما قلنا إيضاحا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الفرقة الناجية قال : " ما أنا عليه وأصحابي " فلا بد من تعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وليس طريق معرفته إلا النقل ، فيجب الرجوع إلى ذلك ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا [ ص: 589 ] تنازعوا الأمر أهله " فكما يرجع في مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوة في هذه الأمة إلى أهل الفقه ، ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة ، وفي النحو إلى أهل النحو ، وكذا يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أهل الرواية والنقل ، لأنهم عنوا بهذا الشأن واشتغلوا بحفظه والفحص عنه ونقله ، ولولاهم لاندرس علم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقف أحد على سنته وطريقته .

ثم قال الإمام أبو المظفر : فإن قالوا : فقد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلطت عليهم قلنا : ما اختلطت إلا على الجاهلين بها ، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير ، فيميزون زيوفها ويأخذون خيارها ، ولئن دخل في أغمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث وورثة العلماء حتى أنهم عدوا أغاليط من غلط في الإسناد والمتون ، بل تراهم يعدون على كل واحد منهم كم في حديث غلط ، وفي كل حرف حرف ، وماذا صحف ، فإذا لم ترج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون والحروف فكيف يروج عليهم وضع الزنادقة وتوليدهم الأحاديث التي يرويها الناس حتى خفيت على أهلها ، وهو قول بعض الملاحدة وما يقول هذا إلا جاهل ضال مبتدع كذاب يريد أن يهجن بهذه الدعوة الكاذبة صحاح أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره الصادقة ، فيغالط جهال الناس بهذه الدعوى وما احتج مبتدع في رد آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أوهن ولا أشد استحالة من هذه الحجة ، فصاحب هذه الدعوى يستحق أن يسف في فيه وينفى من بلد الإسلام .

فتدبر رحمك الله أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار النبي صلى الله عليه وسلم شرقا وغربا ، برا وبحرا ، وارتحل في الحديث الواحد فراسخ ، واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان موضع التهمة ، ولم يحابه في مقال ولا خطاب غضبا لله وحمية لدينه ، ثم ألف الكتب في معرفة المحدثين وأسمائهم وأنسابهم وقدر أعمالهم ، وذكر أعصارهم وشمائلهم وأخبارهم ، وفصل بين الرديء والجيد ، والصحيح والسقيم ، حبا لله ورسوله ، وغيرة على الإسلام والسنة ، ثم استعمل آثاره كلها حتى فيما عدا العبادات من أكله وطعامه وشرابه ونومه ويقظته وقيامه وقعوده ودخوله وخروجه ، وجميع سننه وسيرته حتى في خطواته ولحظاته ، ثم دعا الناس إلى ذلك وحثهم عليه وندبهم إلى استعماله وحبب إليهم ذلك بكل ما يملكه حتى في بذل ماله ونفسه كمن أفنى عمره في اتباع أهوائه وإرادته وخواطره وهواجسه ، ثم تراه ما هو أوضح من [ ص: 590 ] الصبح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأشهر من الشمس برأي دخيل ، واستحسان ذميم ، وظن فاسد ، ونظر مشوب بالهوى .

فانظر وفقك الله للحق : أي الفريقين أحق أن ينسب إلى اتباع السنة واستعمال الأثر .

فإذا قضيت بين هذين بوافر لبك وصحيح نظرك ، وثاقب فهمك فليكن شكرك لله تعالى على حسب ما أراك من الحق ووفقك للصواب وألهمك من السداد .

قلت : ومن المعلوم أن من هذا عنايته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه فإنها تفيد عنده من العلم الضروري والنظري ما لا تفيده عند المعرض عنها المشتغل بغيرها ، وهذا شأن من عني بسيرة رجل وهديه وكلامه وأحواله فإنه يعلم من ذلك بالضرورة ما هو مجبول لغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية