الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه ويثاب على ما فعله من الصلاة ، أم يقال : إن الصلاة باطلة ، عليه إعادتها كأنه لم يفعلها ؟

              هذا فيه نزاع بين العلماء .

              وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم : إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك .

              فقد بين أن الكمال الذي نفي هو هذا التمام الذي ذكره [ ص: 55 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها ، وكذلك قوله في الحديث الآخر : فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته .

              ويؤيد هذا : أنه أمره بأن يعيد الصلاة ولو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة ، ولهذا يؤمر مثل هذا المسيء بالإعادة ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة فهل يقال : إن وجودها كعدمها بحيث يعاقب على تركها ؟ أو يقال : إنه يثاب على ما فعله ويعاقب على ما تركه ، بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع ؟ هذا فيه نزاع ، والثاني أظهر ؛ لما روى أبو داود وابن ماجه عن أنس بن حكيم الضبي قال : خاف رجل من زياد - أو ابن زياد - فأتى المدينة ، فلقي أبا هريرة رضي الله عنه قال : فنسبني فانتسبت له ، فقال : يا فتى ، ألا أحدثك حديثا ؟ قال : قلت : بلى يرحمك الله - قال يونس : فأحسبه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم : الصلاة ، قال : يقول ربنا عز وجل لملائكته وهو أعلم : انظروا في صلاة عبدي ، أتمها أم نقصها ؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع قال : أتموها من تطوعه ، ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم " .

              وفي لفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فكمل به ما [ ص: 56 ] انتقص من الفريضة ، ثم يكون سائر أعماله على هذا ، رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن .

              وروى أيضا أبو داود وابن ماجه عن تميم الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى قال : ثم الزكاة مثل ذلك ، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك .

              وأيضا فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ، رواه أهل السنن الأربعة ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

              فهذا صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود ، فهذا يدل على إيجاب الاعتدال في الركوع والسجود .

              وهذه المسألة ، وإن لم تكن هي مسألة الطمأنينة ، فهي تناسبها وتلازمها .

              وذلك : أن هذا الحديث نص صريح في وجوب الاعتدال ، فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع والسجود فالطمأنينة فيهما أوجب .

              وذلك : أن قوله : " يقيم ظهره في الركوع والسجود " ، أي : عند رفعه رأسه منهما ، فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود ؛ [ ص: 57 ] لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحني إلى أن يعود فيعتدل ، ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل ، فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما ؛ فلهذا قال : " يقيم صلبه في الركوع والسجود " .

              ويبين ذلك : [ أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود ] ، وهذا كقوله في الحديث المتقدم : ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ، ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه ، فأخبر أن إقامة الصلب في الرفع من السجود لا في حال الخفض .

              والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ، ووجوب الطمأنينة ، لكن قال في الركوع والسجود والقعود : " حتى تطمئن راكعا وحتى تطمئن ساجدا وحتى تطمئن جالسا " ، وقال في الرفع من الركوع : " حتى تعتدل قائما وحتى تستوي قائما " ؛ لأن القائم يعتدل ويستوي وذلك مستلزم للطمأنينة .

              وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين ، وذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال والاستواء ، فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك ، وإما إلى أمامه ؛ لأن أعضاءه التي يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة ، مع أنه قد روى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرفع من الركوع : " حتى تطمئن قائما .

              وعن علي بن شيبان الحنفي قال : خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا [ ص: 58 ] يقيم صلاته - يعني صلبه في الركوع والسجود - فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال : يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ، رواه الإمام أحمد وابن ماجه وفي رواية للإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده .

              وهذا يبين أن إقامة الصلب : هي الاعتدال في الركوع كما بيناه ، وإن كان طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة ، واحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده ، لا على الاعتدالين ، وعلى ما ذكرناه : فإنه يدل عليهما .

              وروى الإمام أحمد في المسند عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته ، قالوا : يا رسول الله كيف يسرق من صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها ، أو قال : لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ، وهذا التردد في اللفظ ظاهره : أن المعنى المقصود من اللفظين واحد ، وإنما شك في اللفظ كما في نظائر ذلك .

              وأيضا : فعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب ، وافتراش السبع ، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه .

              [ ص: 59 ] وإنما جمع بين الأفعال الثلاثة وإن كانت مختلفة الأجناس ؛ لأنه يجمعها مشابهة البهائم في الصلاة ، فنهى عن مشابهة فعل الغراب ، وعما يشبه فعل السبع ، وعما يشبه فعل البعير ، وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين لما فيه من أحاديث أخر .

              وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اعتدلوا في الركوع والسجود ولا يبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ، لا سيما وقد بين في حديث آخر : " أنه من صلاة المنافقين " ، والله تعالى أخبر في كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين .

              فروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تلك صلاة المنافق ، يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا ، فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة ، ويضيع فعلها وينقرها ، فدل ذلك على ذم هذا وهذا ، وإن كان كلاهما تاركا للواجب .

              وذلك حجة واضحة في أن نقر الصلاة غير جائز ، وأنه من فعل من فيه نفاق والنفاق كله حرام ، وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها وهو مفسر لحديث قبله ، وقال الله تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) [ النساء ] ، وهذا وعيد شديد لمن ينقر في صلاته فلا يتم ركوعه وسجوده بالاعتدال والطمأنينة .

              [ ص: 60 ] والمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الأمثال ، فإن الصلاة قوت القلوب كما أن الغذاء قوت الجسد ، فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل ، فالقلب لا يقتات بالنقر في الصلاة ، بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية