الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 250 ] وأما وقوعه فاختلفوا فيه على أربعة مذاهب : - فذهب الجمهور إلى وقوعه مطلقا ، ومنهم الآمدي وابن الحاجب قال الماوردي : وتدل عليه قصة سليمان وداود ، { وقوله لعمر : أرأيت لو تمضمضت } ، { وقول العباس له : إلا الإذخر فقال : إلا الإذخر } فلو كان بالوحي لما تأخر الاستثناء - ومنهم من أنكر وقوعه مطلقا - ومنهم من فصل فقال : كان لا يجتهد في القواعد ، وكان يجتهد في الفروع ، كقوله : { أرأيت لو تمضمضت } واختاره في المنخول " - ومنهم من توقف واختاره القاضي ، فقال في المستصفى " : وهو الأصح ، فإنه لم يثبت فيه قاطع والمنكرون للوقوع قالوا : السنة كلها وحي ولكنه لا يتلى ، والقرآن وحي يتلى وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

                                                      [ ص: 251 ] { ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه } ، وفي حديث { الذي سأله عن العمرة فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي ثم سري عنه فقال : اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك } وهو حديث صحيح وهو دليل قطعي على أن السنة كانت تنزل كما ينزل القرآن وهو أخذ نزول الوحي وأعظمها وصرح الشافعي رحمه الله في الرسالة " بأن السنة منزلة كالقرآن وفي الحديث : { بلغوا عني ولو آية } والمسألة متجاذبة ، وليس فيها كثير فائدة ، فإنه على كل حال يجب الأخذ بها وطاعتها كالقرآن ومن أقوى أدلة القائلين بالوقوع قوله : { إلا الإذخر } عقيب ما قيل له : إلا الإذخر ، ونحو ذلك وليس قاطعا لاحتمال أن يكون أوحى إليه في تلك اللحظة وادعى القرافي في أن محل الخلاف في الفتاوى ، وأن الأقضية يجوز فيها بلا نزاع وفيه نظر ، لما سيأتي وقال أبو الحسين في المعتمد " : إن أريد باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم الاستدلال بالنصوص على مراد الله ، فذلك جائز قطعا ، وإن أريد به الاستدلال بالأمارات الشرعية : فإن كان أخبار آحاد فلا يتأتى منه عليه السلام ، وإن كانت أمارات مستنبطة وهي التي يجمع بها بين الأصل

                                                      [ ص: 252 ] والفرع فهو موضع الخلاف في أنه هل كان يجوز له أن يتعبد به عليه ؟ والصحيح جوازه فروع الأول - إذا جوزنا ، فهل كان يجب عليه ؟ فيه وجهان حكاهما ابن أبي هريرة في تعليقه " في الأقضية ، وصحح الوجوب وكذا حكاهما الماوردي في الأقضية ثم قال : والأصح عندي التفصيل بين حقوق الآدميين فيجب عليه ، لأنهم لا يصلون إلى حقوقهم إلا بالاجتهاد ، ولا يجب في حقوق الله الثاني - إذا اجتهد فهل يستبيح الاجتهاد برأيه أو يرجع فيها إلى دلائل الكتاب ؟ على وجهين حكاهما الماوردي أيضا ، أحدهما : أنه يرجع في اجتهاده إلى الكتاب ، لأن سننه أصل كالكتاب .

                                                      وقال الغزالي : يجوز القياس على الفرع الذي قاسه النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى كل فرع أجمعت الأمة على إلحاقه بالأصل ، قال : لأنه صار أصلا بالإجماع والنص فلا يعطى إلى مآخذهم الثالث - إذا جوزنا له الاجتهاد فالمختار أنه لا يتطرق الخطأ إلى اجتهاده ، لأنه لو جاز لوجب علينا اتباعه فيه ، وهو ينافي كونه خطأ والمسألة قد نص عليها الشافعي في الأم " فقال في كتاب الإقرار : والاجتهاد في الحكم بالظاهر ، ولن يؤمر الناس أن يتبعوا إلا كتاب الله وسنة رسوله الذي عصمه الله من الخطأ وبرأه الله منه فقال : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فأما من رأيه خطأ وصواب فلن يؤمر أحد باتباعه ، انتهى وقال ابن فورك : هو معصوم في اجتهاده كما هو معصوم في خبره وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أصحابنا وقال الهندي إنه الحق عندنا ، وممن [ ص: 253 ] جزم به الحليمي في شعب الإيمان " فقال في خصائص الأنبياء : ومنها العصمة من الخطأ في الاجتهاد وخصوا بأدلاء حتى تتسع الضروب من الاستنباط فيما أوحي إليه وإذا تفاوتت العلماء من أجله في ذلك فالنبي هو الذي أعلم العلماء أولى بالارتقاء فيه ، وقد قال بعضهم : أن عامة سنن الرسول ترجع إلى القرآن ومعلوم أن ذلك لا يقف عليه العلماء وإن بذلوا الجهد فيه فهو إذا يفهمه عليه الصلاة والسلام فهما لا يبلغه فهم غيره عليه الصلاة والسلام . انتهى .

                                                      وقيل : يجوز بشرط أن لا يقر عليه وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في اللمع " وحكاه ابن برهان عن أكثر أصحابنا والخطابي في أعلام الحديث عن أكثر العلماء ، وجعله عذرا لعمر في الكتاب الذي أراد النبي أن يكتبه ، وارتضاء الرافعي في العدد ، في الكلام عن سكنى المعتدة عن الوفاة ، وكذا ابن حزم في الإحكام " قال : { كفعله بابن أم مكتوم إذ أنزلت عبس } قلت : وهو قول لا نور عليه وقول ابن الحاجب أنه المختار غير صواب ولا خلاف أنه لا يجوز التقرير عليه [ ص: 254 ] وقال الماوردي والروياني في كتاب القضاء : اختلف أصحابنا في عصمة الأنبياء من الخطأ في الاجتهاد على وجهين : أحدهما : أنهم معصومون ، وهو مقتضى الوجه القائل بأنهم لا يجتهدون إلا عن دليل ونص و ( الثاني ) المنع ، لكن لا يقرهم الله عليه ليزول الارتياب به ، وإن جاز أن يكون غيرهم من العلماء مقرا عليه ، وهو مقتضى الوجه القائل بأنه يجوز أن يجتهد بالرأي من غير استدلال بنص وقالا : قال ابن أبي هريرة : نبينا عليه الصلاة والسلام معصوم في الاجتهاد من الخطأ دون غيره من الأنبياء لأنه لا نبي بعده يستدرك بخلاف غيره من الأنبياء قلت : وهكذا رأيته في تعليقه " في الأقضية فحصل في عصمتهم في الاجتهاد مذاهب : ( ثالثها ) : نبينا فقط وقال الماوردي : وهذا لا وجه له ، لأن جميع الأنبياء غير مقرين على الخطأ في وقت التنفيذ ، ولا يمهلون على التراخي حتى يستدركه من بعدهم قلت : وهو قول حكاه القاضي عياض ، وهو أفسد الأقوال ، وقيل : الخلاف في غير أمور الدنيا ، أما أمور الدنيا فيجوز على الكل ، لحديث التلقيح .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية