الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المسألة الثانية في أن أخذ العامي بقول المجتهد ، هل يسمى تقليدا أم لا ؟ فقيل : ليس بتقليد ، لأنه لا بد له من نوع اجتهاد ، وبه جزم القاضي والغزالي والآمدي وابن الحاجب . وحكاه العبادي في زيادته " عن الأستاذ أبي إسحاق ، لأنه بذل مجهوده في الأخذ بقول الأعلم . وقال القاضي في مختصر التقريب " : الذي نختاره أن ذلك ليس بتقليد أصلا ، فإن قول العالم حجة في حق المستفتي . نصبه الرب علما في حق العامي ، فأوجب عليه العمل به ، كما أوجب على المجتهد العمل باجتهاده ، واجتهاده علم عليه . ويتخرج من هذا أنه لا يتصور تقليد مباح في الشريعة ، لا في الأصول ولا في الفروع . إذ التقليد على ما عرفه القاضي : اتباع من لم يقم باتباعه حجة ولم يستند إلى علم . قال : ولو ساغ تسمية العامي مقلدا مع [ أن ] قول العالم في حقه واجب الاتباع جاز أن يسمى المتمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل مقلدا . قال القاضي : ولأنه يستند إلى حجة قطعية وهو الإجماع ، فلا يكون تقليدا . وهذا بناء منه على أحد تفسيري التقليد .

                                                      [ ص: 321 ] وذهب معظم الأصوليين - قاله إمام الحرمين - إلى أنه مقلد له فيما يأخذه ، لأنا إن فسرناه بقبول القول بلا حجة فقد تحقق ذلك ، إذ قوله في نفسه ليس بحجة ، وإن فسرناه بقبول القول مع الجهل بمأخذه فهو متحقق في قول المفتي أيضا . قال ابن السمعاني : ولعله الأولى ، لأنه لا يعرف حجة ما يصير إليه من الحكم قبل ، والإجماع سبق القاضي . على أن العوام يقلدون المجتهدين ، ولو لم يكن تقليدا فليس في الدنيا تقليد . ومن نظر كتب العلماء والخلافيين وجدها طافحة بجعل العوام مقلدين ، ولهذا قال في المستصفى " بعدما ذكر أن العامي إذا أخذ بقول المجتهد فهو ظان صدقه ، والظن معلوم ، ووجوب الحكم عند الظن ، وهذا علم قاطع ، والتقليد جهل . فإن قيل : قد رفعتم التقليد من البين . وقال الشافعي : لا يحل لأحد تقليد أحد سوى الرسول ، فقد أثبت تقليدا . قلنا : قد صرح بإبطال التقليد إلا ما استثنى ، فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء ، وقبول خبر الواحد ، وشهادة العدول تقليدا . نعم ، يجوز تسمية قول الرسول تقليدا توسعا واستثناء من غير جنسه . ووجه التجوز أن يقول : قوله وإن كان حجة دلت على صدقه جملة فلا يطلب منه حجة على غير تلك المسألة ، فكان تصديقا بغير حجة خاصة ، ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا . انتهى . وهذا أخذه من كلام القاضي ، ولا يوافق على أن رجوع العامي ليس بتقليد ، والقاضي إنما قال ذلك بناء على أن المقلد شاك . ولم يقتصر الآمدي وابن الحاجب على ما فعل القاضي والغزالي بل زادا : لو سمى مسم الرجوع إلى من قوله حجة تقليدا فلا مشاحة في التسمية . قلت : وبذلك صرح القاضي في التقريب " أيضا . وهذا صحيح على قولنا . أما على قول القاضي والآمدي أن المقلد شاك فيمن يقلده فلا تنبغي هذه التسمية ، لخروجها عن وضع اللسان . ومن اعتقد أن المقلد شاك فينبغي أن يمنع من تسمية الرسول مقلدا ، وإذا عرفت المدارك هانت المسالك .

                                                      [ ص: 322 ] واعلم أن القاضي والغزالي يقولان : لا تقليد في الدنيا . وأما الآمدي فيقول : لا تقليد في رجوع المرء إلى قول العامي ، والمجتهد إلى قول مثله ، يعني حيث لا يجوز له الأخذ به . وإنما قلنا ذلك ليخرج الأخذ بقوله عند ضيق الوقت ونحوه ، مما جوزه قوم . واعترض الآمدي - تبعا للغزالي - بأنه لو سمى مسم الرجوع إلى الرسول وإلى الإجماع والمفتي والشهود تقليدا بعرف الاستعمال فلا مشاحة في اللفظ ، وابن الحاجب تبع الآمدي ، وكذا ابن الصلاح صرح بما يوافقهم حكما . غير أنه أتى بغير تعريفهم للتقليد . وما صرح به من أن رجوع العامي إلى المفتي ليس بتقليد مع دعواه في كتاب أدب الفتيا " من منازعة الشيخ أبي علي وأمثاله من كونهم ليسوا مقلدين للشافعي فعجب ، إذ كيف يقضى على أبي علي - وهو الحبر - بالتقليد ، ولا يقضى بذلك على العامي الصرف ، وما ذاك إلا أنه وقت التعريف مع الغزالي ، وعند الانفصال جرى على ما هو مقرر عند الفقهاء من أن رجوع العامي إلى المجتهد تقليد . وقد يأخذ المجتهد بقول مجتهد ، ولكن تسمية ذلك أخذا مجاز ، لأنه إنما أخذه منه لما أداه إليه نظره ، لا لكون ذلك قاله ، وإنما سمي القول قوله - إن سمي - لسبقه إليه كما نقول أخذ الشافعي بقول مالك ، أو بقول أبي حنيفة في مسائل سبقاه إلى القول بها . ومن تبحر في مذهب إمام ولم يبلغ رتبة الاجتهاد فأفتى على مذهب ذلك الإمام كان المستفتي مقلدا لذلك الإمام ، لا للمفتي . حكاه القاضي الحسين عن شيخه القفال . ذكره في الكافي " . وجزم به إمام الحرمين في الغياثي " . وقال الرافعي إنه المشهور للأصحاب ، إلا أن أبا الفتح الهروي أحد أصحاب الإمام صرح بأنه يقلد المتبحر في نفسه . وقال ابن الصلاح : ينبغي تخريج هذا على الخلاف في أن ما يخرجه أصحابنا على مذهب الشافعي هل يجوز أن ينسب إليه ؟ وفيه خلاف ، والمختار أنه لا يجوز .

                                                      [ ص: 323 ] مسألة قال ابن فورك : أقمنا الدلالة على أن التقليد ليس من طرق العلم بوجه ، لأن الرجوع إلى الدعوى لا يثمر علما ، لأن صورة دعوى المحق صورة دعوى المبطل ، وإنما يثمر بالدليل .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية