الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما الذين قالوا : إنه أحرم إحراما مطلقا ، لم يعين فيه نسكا ، ثم عينه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصفا والمروة ، وهو أحد أقوال الشافعي - رحمه الله - نص عليه في كتاب " اختلاف الحديث " . قال : وثبت أنه خرج ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصفا والمروة ، فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة ، ثم قال : ومن وصف انتظار النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء ، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلبا للاختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة ، فيشبه أن يكون أحفظ ؛ لأنه قد أتي بالمتلاعنين ، فانتظر القضاء ، كذلك حفظ عنه في الحج ينتظر القضاء .

وعذر أرباب هذا القول ما ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر حجا ولا عمرة " ، وفي لفظ : " يلبي لا يذكر حجا ولا عمرة ) ، وفي رواية عنها : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا الحج حتى إذا دنونا من [ ص: 147 ] مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل ) ، وقال طاووس : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة ، فأمر أصحابه من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة . .. الحديث .

وقال جابر في حديثه الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم : ( فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته ) ، فأخبر جابر أنه لم يزد على هذه التلبية ، ولم يذكر أنه أضاف إليها حجا ولا عمرة ، ولا قرانا ، وليس في شيء من هذه الأعذار ما يناقض أحاديث تعيينه النسك الذي أحرم به في الابتداء ، وأنه القران .

فأما حديث طاووس ، فهو مرسل لا يعارض به الأساطين المسندات ، ولا يعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن . ولو صح ، فانتظاره للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات ، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادي ، ( أتاه آت من ربه تعالى فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة ) ، فهذا القضاء الذي انتظره ، جاءه قبل الإحرام ، فعين له القران . وقول طاووس : نزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة ، هو قضاء آخر غير القضاء الذي نزل عليه بإحرامه ، فإن ذلك كان بوادي العقيق ، وأما القضاء الذي نزل عليه بين الصفا والمروة ، فهو قضاء الفسخ [ ص: 148 ] الذي أمر به الصحابة إلى العمرة ، فحينئذ أمر كل من لم يكن معه هدي منهم أن يفسخ حجه إلى عمرة ، وقال : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة ) ، وكان هذا أمر حتم بالوحي ، فإنهم لما توقفوا فيه قال : " انظروا الذي آمركم به فافعلوه " .

فأما قول عائشة : خرجنا لا نذكر حجا ولا عمرة ، فهذا إن كان محفوظا عنها ، وجب حمله على ما قبل الإحرام ، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها ، أن منهم من أهل عند الميقات بحج ، ومنهم من أهل بعمرة ، وأنها ممن أهل بعمرة . وأما قولها : نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة ، فهذا في ابتداء الإحرام ، ولم تقل : إنهم استمروا على ذلك إلى مكة ، هذا باطل قطعا فإن الذين سمعوا إحرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أهل به ، شهدوا على ذلك ، وأخبروا به ، ولا سبيل إلى رد رواياتهم . ولو صح عن عائشة ذلك ، لكان غايته أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات ، فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته ، والرجال بذلك أعلم من النساء .

وأما قول جابر رضي الله عنه : وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد ، فليس فيه إلا إخباره عن صفة تلبيته ، وليس فيه نفي لتعيينه النسك الذي أحرم به بوجه من الوجوه . وبكل حال ، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة في نفي التعيين ، لكانت أحاديث أهل الإثبات أولى بالأخذ منها ؛ لكثرتها ، وصحتها ، واتصالها ، وأنها مثبتة مبينة متضمنة لزيادة خفيت على من نفى ، وهذا بحمد الله واضح ؛ وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية