الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
اعلم - رحمك الله - أن هذه المسألة زل فيها عالم وضل فيها طوائف من بني آدم وهدى الله أتباع رسله فيها للحق المبين والصواب المستبين فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن روح الإنسان محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة وهذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل صلوات الله عليهم كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم حادث وأن معاد الأبدان واقع وأن الله تعالى وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق له ، وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون المفضلة على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة واحتج لذلك أنها من أمر الله وأمر الله غير مخلوق وبأن الله أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وكتابه [ ص: 34 ] وقدرته وسمعه وبصره ويده . وتوقف آخرون فقالوا لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة .

وقد سئل عن ذلك حافظ أصبهان أبو عبد الله بن منده من أعيان علمائنا فقال : أما بعد فإن سائلا يسأل عن الروح التي جعلها الله سبحانه قوام أنفس الخلق وأبدانهم وذكر أقواما تكلموا في الروح وزعموا أنها غير مخلوقة وخص بعضهم منها أرواح القدس وأنها من ذات الله ، قال وأنا أذكر أقاويل متقدميهم وأبين ما يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأقاويل الصحابة والتابعين وأهل العلم وأوضح به خطأ المتكلم في الروح بغير علم وأن كلامهم يوافق قول جهم بن صفوان وأصحابه .

فذكر أن الناس اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلها من النفس فقال بعضهم الأرواح كلها مخلوقة ، قال : وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " . رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، ورواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها ، ورواه الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، وروي أيضا من حديث سلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عنبسة رضي الله عنهم أجمعين ، والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة .

وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفى الله حقيقتها وعلمها عن الخلق واحتجت بقوله تعالى قل الروح من أمر ربي وقال بعضهم الأرواح نور من الله تعالى وحياة من حياته واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره - وتمام الحديث - فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل " رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .

وقال محمد بن نصر المروزي في كتابه : تأول صنف من الزنادقة وصنف من الروافض في روح ابن آدم ما تأولته النصارى في روح عيسى وما تأوله قوم من أن الروح انفصل من ذات الله تعالى وتقدست أسماؤه فصار في المؤمن فعبد صنف من النصارى عيسى ومريم جميعا لأن عيسى عندهم [ ص: 35 ] روح من الله فصار في مريم فهو غير مخلوق عندهم .

وقال صنف من الزنادقة وصنف من الروافض إن روح آدم عليه السلام مثل ذلك إنه غير مخلوق وتأولوا قوله ونفخت فيه من روحي وقوله ثم سواه ونفخ فيه من روحه فزعموا أن روح آدم ليس بمخلوق كما تأول من قال بأن النور من الرب غير مخلوق ، قالوا : ثم صار بعد آدم في الوصي بعده ثم هو في كل نبي ووصل إلى أن صار في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم في ابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهما ثم في كل وصي وإمام فبه يعلم الإمام كل شيء لا يحتاج أن يتعلم من أحد .

قال ولا خلاف بين المسلمين أن الأرواح في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلها مخلوقة لله خلقها وأنشأها وكونها وأخبر عنها ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه : روح الآدمي مخلوقة مبتدعة باتفاق الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة ، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور الذي هو من أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف وكذلك أبو محمد بن قتيبة . وقال الإمام أبو إسحاق بن شاقلا من أئمة علمائنا وهذا - يعني كون الروح مخلوقة - مما لا يشك فيه من وفق للصواب أن الروح من الأشياء المخلوقة .

قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الروح : قد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك كتابا كبيرا وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره والشيخ أبو سعيد الخراز وأبو يعقوب النهرجوري والقاضي أبو يعلى وقد نص على ذلك الأئمة الكبار واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم عليه السلام فكيف بروح غيره كما ذكره الإمام أحمد رضي الله عنه فيما كتبه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية - قال : ثم إن الجهمي ادعى أمرا فقال أنا أجد آية في كتاب الله مما يدل على أن القرآن مخلوق قول الله تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ ص: 36 ] وعيسى مخلوق .

قلنا له : إن الله منعك الفهم للقرآن ، إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأنا نسميه مولودا وطفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الخطاب والوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى - إلى أن قال - والكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن ، وليس عيسى هو كن ولكن كان بكن ، فكن من الله قولا وليس كن مخلوقا ، وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى ، وذلك أن الجهمية قالوا : روح الله وكلمته إلا أن كلمته مخلوقة ، وقال النصارى : عيسى روح الله وكلمته فالكلمة من ذاته كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب ، قلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس هو الكلمة ، وإنما الكلمة قول الله وقوله تعالى وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه يقول من أمره ، وتفسير روح الله إنما معناها بكلمة الله كما يقال عبد الله وسماء الله وأرض الله .

فقد صرح بأن روح المسيح مخلوقة فكيف بسائر الأرواح وقد أضاف الله إليه روح الذي أرسله إلى مريم وهو عبده ورسوله ولم يدل ذلك على أنه قديم غير مخلوق فقال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك فهذا الروح هو روح الله وهو عبده ورسوله .

ومما ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه نوعان : صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها فالعلم والقدرة إلخ صفات له تعالى غير مخلوقة وكذا وجهه ويده ونحو ذلك من الصفات الخبرية والذاتية وكذا الفعلية من التكوين والمحبة والرضا ونحوها في مذهب السلف كما مر ( والثاني ) إضافة أعيان منفصلة كبيت الله وناقة الله وعبد الله ورسول الله وكذلك روح الله فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه ومصنوع إلى صانعه لكنها تقتضي تخصيصا أو تشريفا يتميز به المضاف إليه عن غيره كبيت الله وإن كانت كل البيوت لله [ ص: 37 ] ملكا له وكذلك ناقة الله والنوق كلها ملكه وخلقه ولكن هذه إضافة إلى إلهيته تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيته حيث تقتضي خلقه وإيجاده فالإضافة العامة تقتضي الخلق والإيجاد والخاصة تقتضي الاختيار وربك يخلق ما يشاء ويختار فإضافة الروح إليه تعالى من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة ولا من باب إضافة الصفات فتأمل هذا الموضع فإنه نفيس ويخلصك من ضلالات كثيرة وقع فيها من شاء الله من الناس كما أوضحه وبرهن عليه وبينه الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الروح وقال إن الروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال وهذا من شأن المحدث المربوب وأطال في الاحتجاج ودفع مقالات أهل البدع واللجاج وثمرة ذلك كون الروح مخلوقة بالإجماع والله تعالى الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية