الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 183 ] فصل

وأما العذر الثالث : وهو معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها ، فذكروا منها ما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث الزهري ، عن عروة ( عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج ، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " من أحرم بعمرة ولم يهد ، فليحلل ، ومن أحرم بعمرة وأهدى ، فلا يحل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحج فليتم حجه ) ، وذكر باقي الحديث .

ومنها : ما رواه مسلم في " صحيحه " أيضا من حديث مالك عن أبي الأسود ، عن عروة عنها : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالحج ، فأما من أهل بعمرة فحل ، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة ، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر ) .

ومنها : ما رواه ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن بشر العبدي ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن ( عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للحج على ثلاثة أنواع : فمنا من أهل بعمرة وحجة ، ومنا من أهل بحج مفرد ، ومنا من أهل بعمرة مفردة ، فمن كان أهل بحج وعمرة معا ، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ، ومن أهل بحج مفرد ، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ، ومن أهل بعمرة مفردة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، حل مما حرم منه حتى استقبل حجا ) .

[ ص: 184 ] ومنها : ما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن محمد بن نوفل ، أن رجلا من أهل العراق ، قال له : سل لي عروة بن الزبير ، عن رجل أهل بالحج ، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا ؟ فذكر الحديث ، وفيه : قد حج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة ، أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم حج أبو بكر ، ثم كان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ، ثم عمر مثل ذلك ، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة .

ثم معاوية وعبد الله بن عمر ، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام ، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة . ثم رأيت المهاجرين والأنصار ، يفعلون ذلك ، ثم لم تكن عمرة ، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ، ثم لم ينقضها بعمرة ، فهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه ؟ ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ، ثم لا يحلون ، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدآن بشيء أول من الطواف بالبيت ، تطوفان به ثم لا تحلان
.

فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديث الفسخ ، ولا معارضة فيها بحمد الله ومنه .

أما الحديث الأول ، وهو حديث الزهري عن عروة ، عن عائشة فغلط فيه عبد الملك بن شعيب ، أو أبوه شعيب ، أو جده الليث أو شيخه عقيل ، فإن الحديث رواه مالك ومعمر والناس ، عن الزهري عن عروة عنها ، وبينوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى أن يحل . فقال مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عنها ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لخمس ليال بقين لذي القعدة ، ولا نرى إلا الحج ، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى [ ص: 185 ] بين الصفا والمروة أن يحل ) ، وذكر الحديث . قال يحيى : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد ، فقال أتتك والله بالحديث على وجهه .

وقال منصور : عن إبراهيم ، عن الأسود ، عنها : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا نرى إلا الحج ، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت ، فأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل ، فحل من لم يكن ساق الهدي ، ونساؤه لم يسقن فأحللن ) .

وقال مالك ومعمر كلاهما عن ابن شهاب عن عروة ، عنها : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ، ولا يحل حتى يحل منهما جميعا ) .

وقال ابن شهاب : عن عروة عنها ، بمثل الذي أخبر به سالم عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولفظه : ( تمتع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج فأهدى ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق معه الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكة قال للناس : " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة ، وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد ، فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ) ، وذكر باقي الحديث .

[ ص: 186 ] وقال عبد العزيز الماجشون : عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة ، خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا نذكر إلا الحج . .. فذكر الحديث . وفيه قالت : فلما قدمت مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه : " اجعلوها عمرة ، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي " .

وقال الأعمش : عن إبراهيم ، عن عائشة خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا نذكر إلا الحج ، فلما قدمنا أمرنا أن نحل ، وذكر الحديث .

وقال عبد الرحمن بن القاسم : عن أبيه ( عن عائشة خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف طمثت . قالت : فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنا أبكي . فقال " ما يبكيك " ؟ قالت : فقلت والله لوددت أني لا أحج العام . .. ) ، فذكر الحديث . وفيه : فلما قدمت مكة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " اجعلوها عمرة " ، قالت : فحل الناس إلا من كان معه الهدي .

وكل هذه الألفاظ في " الصحيح " ، وهذا موافق لما رواه جابر ، وابن عمر ، وأنس ، وأبو موسى ، وابن عباس ، وأبو سعيد وأسماء ، والبراء ، وحفصة ، وغيرهم من أمره - صلى الله عليه وآله وسلم - أصحابه كلهم بالإحلال إلا من ساق الهدي ، وأن يجعلوا حجهم عمرة . وفي اتفاق هؤلاء كلهم على أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر أصحابه كلهم أن يحلوا ، وأن يجعلوا الذي قدموا به متعة ، إلا من ساق الهدي ، دليل على غلط هذه الرواية ووهم وقع فيها ، يبين ذلك أنها من رواية الليث عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، والليث بعينه هو الذي روى عن عقيل عن الزهري ، عن عروة عنها مثل ما رواه عن الزهري [ ص: 187 ] عن سالم ، عن أبيه في تمتع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمره لمن لم يكن أهدى أن يحل .

ثم تأملنا فإذا أحاديث عائشة يصدق بعضها بعضا ، وإنما بعض الرواة زاد على بعض ، وبعضهم اختصر الحديث ، وبعضهم اقتصر على بعضه ، وبعضهم رواه بالمعنى . والحديث المذكور ليس فيه منع من أهل بالحج من الإحلال ، وإنما فيه أمره أن يتم الحج ، فإن كان هذا محفوظا ، فالمراد به بقاؤه على إحرامه ، فيتعين أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال ، وجعله عمرة ، ويكون هذا أمرا زائدا قد طرأ على الأمر بالإتمام ، كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقران ، ويتعين هذا ولا بد ، وإلا كان هذا ناسخا للأمر بالفسخ ، والأمر بالفسخ ناسخا للإذن بالإفراد ، وهذا محال قطعا ، فإنه بعد أن أمرهم بالحل لم يأمرهم بنقضه ، والبقاء على الإحرام الأول ، هذا باطل قطعا ، فيتعين إن كان محفوظا أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ ، ولا يجوز غير هذا البتة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية