الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما حديث أبي الأسود ، عن عروة عنها . وفيه : " وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة ، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر " . وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها : فمن كان أهل بحج وعمرة معا ، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى يقضي مناسك الحج ، ومن أهل بحج مفرد كذلك " . فحديثان قد أنكرهما الحفاظ ، وهما أهل أن ينكرا .

قال الأثرم : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك بن أنس ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فمنا من أهل بالحج ، ومنا من أهل بالعمرة ، ومنا من أهل بالحج والعمرة ، وأهل بالحج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأما من أهل بالعمرة ، فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأما من أهل بالحج والعمرة ، فلم يحلوا إلى يوم النحر ، فقال أحمد بن حنبل : أيش في هذا الحديث من العجب ، هذا خطأ ، فقال [ ص: 188 ] الأثرم : فقلت له : الزهري ، عن عروة ، عن عائشة بخلافه ؟ فقال : نعم ، وهشام بن عروة . وقال الحافظ أبو محمد بن حزم : هذان حديثان منكران جدا ، قال : ولأبي الأسود في هذا النحو حديث لا خفاء بنكرته ووهنه وبطلانه . والعجب كيف جاز على من رواه ؟ ثم ساق من طريق البخاري عنه أن عبد الله مولى أسماء حدثه أنه كان يسمع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تقول كلما مرت بالحجون : صلى الله على رسوله لقد نزلنا معه هاهنا ، ونحن يومئذ خفاف قليل ظهرنا ، قليلة أزوادنا ، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان ، فلما مسحنا البيت أحللنا ، ثم أهللنا من العشي بالحج . قال : وهذه وهلة لا خفاء بها على أحد ممن له أقل علم بالحديث لوجهين باطلين فيه بلا شك .

أحدهما : قوله فاعتمرت أنا وأختي عائشة ، ولا خلاف بين أحد من أهل النقل في أن عائشة لم تعتمر في أول دخولها مكة ، ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة ، هكذا رواه جابر بن عبد الله ، ورواه عن عائشة الأثبات ، كالأسود بن يزيد ، وابن أبي مليكة ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، وطاووس ومجاهد .

الموضع الثاني : قوله فيه : فلما مسحنا البيت ، أحللنا ، ثم أهللنا من العشي بالحج ، وهذا باطل لا شك فيه ؛ لأن جابرا ، وأنس بن مالك ، وعائشة ، وابن عباس ، كلهم رووا أن الإحلال كان يوم دخولهم مكة ، وأن إحلالهم بالحج كان يوم التروية ، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك .

قلت : الحديث ليس بمنكر ولا باطل ، وهو صحيح ، وإنما أتي أبو محمد فيه من فهمه ، فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هي وعائشة ، وهكذا وقع بلا شك . وأما قولها : فلما مسحنا البيت أحللنا ، فإخبار منها عن نفسها ، وعمن لم يصبه [ ص: 189 ] عذر الحيض الذي أصاب عائشة ، وهي لم تصرح بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة ، وأنها حلت ذلك اليوم ، ولا ريب أن عائشة قدمت بعمرة ، ولم تزل عليها حتى حاضت بسرف ، فأدخلت عليها الحج ، وصارت قارنة . فإذا قيل : اعتمرت عائشة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو قدمت بعمرة ، لم يكن هذا كذبا .

وأما قولها : ثم أهللنا من العشي بالحج ، فهي لم تقل : إنهم أهلوا من عشي يوم القدوم ، ليلزم ما قالأبو محمد ، وإنما أرادت عشي يوم التروية . ومثل هذا لا يحتاج في ظهوره وبيانه إلى أن يصرح فيه بعشي ذلك اليوم بعينه ؛ لعلم الخاص والعام به ، وأنه مما لا تذهب الأوهام إلى غيره ، فرد أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه .

قال أبو محمد : وأسلم الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة ، يعني اللذين أنكرهما ، أن تخرج روايتهما على أن المراد بقولها : إن الذين أهلوا بحج ، أو بحج وعمرة ، لم يحلوا حتى كان يوم النحر حين قضوا مناسك الحج ، إنما عنت بذلك من كان معه الهدي ، وبهذا تنتفي النكرة عن هذين الحديثين ، وبهذا تأتلف الأحاديث كلها ؛ لأن الزهري عن عروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة ، والزهري بلا شك أحفظ من أبي الأسود ، وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة في هذا الباب من لا يقرن يحيى بن عبد الرحمن إليه ، لا في حفظ ولا في ثقة ، ولا في جلالة ، ولا في بطانة لعائشة ، كالأسود بن يزيد ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأبي عمرو ذكوان مولى عائشة ، وعمرة بنت عبد الرحمن ، وكانت في حجر عائشة ، وهؤلاء هم أهل الخصوصية والبطانة بها ، فكيف ؟ ولو لم يكونوا كذلك ، لكانت روايتهم أو رواية واحد منهم لو انفرد هي الواجب أن يؤخذ بها ؛ لأن فيها زيادة على رواية أبي الأسود ويحيى ، وليس من جهل ، أو غفل حجة على من علم ، وذكر وأخبر ، فكيف وقد وافق هؤلاء الجلة عن عائشة ، فسقط التعلق بحديث أبي الأسود ويحيى اللذين ذكرنا .

[ ص: 190 ] قال : وأيضا ، فإن حديثي أبي الأسود ويحيى موقوفان غير مسندين ؛ لأنهما إنما ذكرا عنها فعل من فعل ما ذكرت دون أن يذكرا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمرهم أن لا يحلوا ، ولا حجة في أحد دون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو صح ما ذكراه ، وقد صح أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من لا هدي معه بالفسخ ، فتمادى المأمورون بذلك ، ولم يحلوا لكانوا عصاة لله تعالى ، وقد أعاذهم الله من ذلك ، وبرأهم منه ، فثبت يقينا أن حديث أبي الأسود ويحيى إنما عني فيهما : من كان معه هدي ، وهكذا جاءت الأحاديث الصحاح التي أوردناها بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر من معه الهدي بأن يجمع حجا مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا .

ثم ساق من طريق مالك عن ابن شهاب ، عن عروة ، عنها ترفعه ( من كان معه هدي ، فليهلل بالحج والعمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ) ، قال : فهذا الحديث كما ترى من طريق عروة عن عائشة يبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك في حديث أبي الأسود عن عروة ، وحديث يحيى عن عائشة ، وارتفع الآن الإشكال جملة ، والحمد لله رب العالمين .

قال : ومما يبين أن في حديث أبي الأسود حذفا قوله فيه : عن عروة " أن أمه وخالته والزبير ، أقبلوا بعمرة فقط ، فلما مسحوا الركن حلوا " . ولا خلاف بين أحد أن من أقبل بعمرة لا يحل بمسح الركن ، حتى يسعى بين الصفا والمروة بعد مسح الركن ، فصح أن في الحديث حذفا بينه سائر الأحاديث الصحاح التي ذكرنا ، وبطل التشغيب به جملة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية