الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الشافعي رحمه الله : إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام ، وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام ، وعند أبي حنيفة رحمه الله ، يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا يجب فيه الزكاة ، فجعل من لا زكاة عليه عادما .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة الشافعي رحمه الله ، أنه تعالى علق جواز الصيام على عدم وجدان هذه الثلاثة ، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط ، فعند وجدان هذه الثلاثة وجب أن لا يجوز الصوم ، تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوما وليلة لأن ذلك كالأمر المضطر إليه ، وقد رأينا في الشرع أنه متى وقع التعارض في حق النفس وحق الغير كان تقديم حق النفس واجبا ، فوجب أن تبقى الآية معمولا بها في غير هذه الصورة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله في أصح قوليه أنه يصوم ثلاثة أيام إن شاء متتابعة وإن شاء متفرقة .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يجب التتابع .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة الشافعي أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام ، والآتي بصوم ثلاثة أيام على التفرق آت بصوم ثلاثة أيام ، فوجب أن يخرج عن العهدة .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة أبي حنيفة رحمه الله : ما روي في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : (فصوم ثلاثة أيام متتابعات) وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب أن القراءة الشاذة مردودة ; لأنها لو كانت قرآنا لنقلت نقلا متواترا ، إذ لو جوزنا في القرآن أن لا ينقل على التواتر لزم طعن الروافض والملاحدة في القرآن وذلك باطل ، فعلمنا أن القراءة الشاذة مردودة ، فلا تصلح لأن تكون حجة . وأيضا نقل في قراءة أبي بن كعب أنه قرأ ( فعدة من أيام أخر متتابعات ) مع أن التتابع هناك ما كان شرطا ، وأجابوا عنه بأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا قال له : علي أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : "أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك ؟ قال : بلى ، قال : فالله أحق أن يعفو وأن يصفح " .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : فهذا الحديث وإن وقع جوابا عن هذا السؤال في صوم رمضان إلا أن لفظه عام وتعليله عام في جميع الصيامات ، وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكان ذلك من أقوى الدلائل على جواز التفريق هاهنا أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : من صام ستة أيام عن يمينين أجزأه ، سواء عين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين أو لا ، والدليل عليه أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام عليه ، وقد أتى بها ، فوجب أن يخرج عن العهدة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 66 ] ثم قال تعالى : ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) قوله : ( ذلك ) إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة ، أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف ، إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلوما ، كما قال : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) [البقرة : 184] أي فأفطر .

                                                                                                                                                                                                                                            احتج الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز فقال : الآية دلت على أن كل واحد من الأشياء الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف ، فإذا أداها بعد الحلف قبل الحنث فقد أدى الكفارة عن ذلك اليمين ، وإذا كان كذلك وجب أن يخرج عن العهدة . قال : وقوله : ( إذا حلفتم ) فيه دقيقة وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز ، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فإنه يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( واحفظوا أيمانكم ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد منه قللوا الأيمان ولا تكثروا منها ، قال كثير :


                                                                                                                                                                                                                                            قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت



                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية