الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ومما يبين هذا : أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حد في اللغة ولا في العرف ؛ إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ، ويستخف هؤلاء ما يستطيله هؤلاء ، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ( ومقادير العبادات ، ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية ) .

              فعلم أن الواجب على المسلم : أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة ، وبهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضا في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال : " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة " ، وهناك أمرهم بالتخفيف ، ولا منافاة بينهما ، فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة ؛ ولهذا قال : " فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء " .

              [ ص: 112 ] فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة ، بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين ؛ فإن خلفه السقيم والكبير وذا الحاجة ؛ ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه " وبذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من حديث [ ابن مسعود ] .

              وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء " ، وفي رواية : " فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة " .

              ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا ، كما روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال : " كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) " ، وروي أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة ، وكان يطولها أحيانا حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو [ ص: 113 ] يقرأ والمرسلات عرفا فقالت : يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة ؛ إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب " .

              وفي الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب " ، وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال : قال لي زيد بن ثابت : " ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين ؟ قال : قلت : ما طولى الطوليين ؟ قال : الأعراف " .

              فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث ، وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات ، مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر من القراءة في الفجر ، فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها ؟ .

              ومن هذا الباب ما روى وكيع عن منصور ، عن إبراهيم النخعي قال : كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع ، فكانوا يعيبون ذلك عليه ، قال أبو محمد بن حزم : العيب على من عاب عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعول على من لا حجة فيه ، قلت : قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح وموافقته لفعل [ ص: 114 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان التابعين ، وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود ؛ فإن ابن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه ، بل الإمام الراتب كان غيره ، وابن أبي مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين .

              فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها ، وإن خالفت السنة النبوية ، ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء .

              يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة ، وتوفي قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله ، فإن علقمة توفي سنة إحدى أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد ، وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك ، وكذلك مسروق ، قيل : إنه توفي قبل السبعين أيضا ، وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه .

              فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك ، مع أن من الناس [ إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي ، وقد ( علمه ) أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك ] وهم رأوا [ ص: 115 ] ذلك وهم أخذوا العلم عن عبد الله ، ونحوه ، فقد تبين أن الأمر ليس كذلك .

              آخر ما وجد في الأصل ، والحمد لله رب العالمين .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية