الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ثم إذا مسكم الضر ) قال ابن عباس : يريد الأسقام والأمراض والحاجة : ( فإليه تجأرون ) أي : ترفعون أصواتكم بالاستغاثة ، وتتضرعون إليه بالدعاء يقال : جأر يجأر جؤارا ، وهو الصوت الشديد كصوت البقرة ، وقال الأعشى يصف راهبا :

                                                                                                                                                                                                                                            يراوح من صلوات المليـ ـك طورا سجودا وطورا جؤارا



                                                                                                                                                                                                                                            والمعنى : أنه تعالى بين أن جميع النعم من الله تعالى ، ثم إذا اتفق لأحد مضرة توجب زوال شيء من تلك النعم فإلى الله يجأر ، أي : لا يستغيث أحدا إلا الله تعالى لعلمه بأنه لا مفزع للخلق إلا هو ، فكأنه تعالى قال لهم : فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة ، ثم قال بعده : ( ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ) فبين تعالى أن عند كشف الضر وسلامة الأحوال يفترقون ، ففريق منهم يبقى على مثل ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله تعالى ، وفريق منهم عند ذلك يتغيرون فيشركون بالله غيره ، وهذا جهل وضلال ، لأنه لما شهدت فطرته الأصلية وخلقته الغريزية عند نزول البلاء والضراء والآفات والمخافات أن لا مفزع إلا إلى الواحد ولا مستغاث إلا الواحد ، فعند زوال البلاء والضراء وجب أن يبقى على ذلك الاعتقاد ، فأما أنه عند نزول البلاء يقر بأنه لا مستغاث إلا الله تعالى ، وعند زوال البلاء يثبت الأضداد والشركاء ، فهذا جعل عظيم وضلال كامل . ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) [ العنكبوت : 65 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ليكفروا بما آتيناهم ) وفي هذه اللام وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنها لام كي والمعنى أنهم أشركوا بالله غيره في كشف ذلك الضر عنهم . وغرضهم من ذلك الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى ، ألا ترى أن العليل إذا اشتد وجعه تضرع إلى الله تعالى في إزالة ذلك الوجع ، فإذا زال أحال زواله على الدواء الفلاني والعلاج الفلاني ، وهذا أكثر أحوال الخلق . وقال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله : في اليوم الذي كنت أكتب هذه الأوراق - وهو اليوم الأول من محرم ، سنة اثنتين وستمائة - حصلت زلزلة شديدة وهدة عظيمة وقت الصبح ورأيت الناس يصيحون بالدعاء والتضرع ، فلما سكتت وطاب [ ص: 43 ] الهواء وحسن أنواع الوقت ، نسوا في الحال تلك الزلزلة ، وعادوا إلى ما كانوا عليه من تلك السفاهة والجهالة ، وكأن هذه الحالة التي شرحها الله تعالى في هذه الآية ، تجري مجرى الصفة اللازمة لجوهر نفس الإنسان .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن هذه اللام لام العاقبة كقوله تعالى ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) [ القصص : 8 ] يعني : أن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن المراد بقوله ( بما آتيناهم ) فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه عبارة عن كشف الضر وإزالة المكروه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال بعضهم : المراد به القرآن وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من النبوة والشرائع .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى توعدهم بعد ذلك فقال : ( فتمتعوا ) وهذا لفظ أمر ، والمراد منه التهديد ، كقوله : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [ الكهف : 29 ] وقوله : ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ) [ الإسراء : 107 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فسوف تعلمون ) أي : عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية