الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 80 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المائدة

هذه السورة مدنية بإجماع؛ وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - من الحديبية؛ وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - من الحديبية قال: "يا علي؛ أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة؛ ونعمت الفائدة".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي - صلى اللـه عليه وسلم.

ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع؛ ومنها ما نزل عام الفتح؛ وهو قوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم ؛ الآية؛ وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي - صلى اللـه عليه وسلم - فهو مدني؛ سواء ما نزل بالمدينة؛ أو في سفر من الأسفار؛ أو بمكة؛ وإنما يوسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة؛ وروي أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - قال: "سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة؛ تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب".

[ ص: 81 ] قوله تعالى :

يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا

قال علقمة : كل ما في القرآن يا أيها الذين آمنوا ؛ فهو مدني؛ وقد تقدم القول في مثل هذا؛ ويقال: "وفى"؛ و"أوفى"؛ بمعنى واحد؛ وأمر الله تعالى المؤمنين عامة بالوفاء بالعقود؛ وهي: الربوط في القول؛ كان ذلك في تعاهد على بر؛ أو في عقدة نكاح؛ أو بيع؛ أو غيره؛ ولفظ "المؤمنين"؛ يعم مؤمني أهل الكتاب؛ إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ ولفظ "العقود"؛ يعم عقود الجاهلية المبنية على بر؛ مثل دفع الظلم؛ ونحوه؛ وأما في سائر تعاقدهم على الظلم؛ والغارات؛ فقد هدمه الإسلام؛ فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة؛ وفسر الناس لفظ "العقود"؛ بـ "العهود"؛ وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال؛ فمن ذلك قول قتادة : "أوفوا بالعقود"؛ معناه: بعهد الجاهلية؛ روي لنا عن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - أنه قال: "أوفوا بعقد الجاهلية؛ ولا تحدثوا عقدا في الإسلام".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وفقه هذا الحديث أن عقد الجاهلية كان يخص المتعاقدين؛ إذ كان الجمهور على ظلم وضلال؛ والإسلام قد ربط الجميع؛ وجعل المؤمنين إخوة؛ فالذي يريد أن يختص به المتعاقدان قد ربطهما إليه الشرع مع غيرهم من المسلمين؛ اللهم إلا أن يكون التعاهد على دفع نازلة من نوازل الظلامات؛ فيلزم في الإسلام التعاهد على دفع ذلك؛ والوفاء بذلك العهد؛ وإما عهد خاص لما عسى أن يقع؛ يختص المتعاهدون بالنظر فيه؛ والمنفعة؛ كما كان في الجاهلية؛ فلا يكون ذلك في الإسلام.

[ ص: 82 ] قال الطبري : وذكر أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - عن حلف الجاهلية؛ فقال: "لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله"؛ قال: نعم يا نبي الله؛ قال: "لا يزيده الإسلام إلا شدة"؛ وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أوفوا بالعقود ؛ معناه: "بما أحل الله؛ وبما حرم؛ وبما فرض؛ وبما حد في جميع الأشياء"؛ قاله مجاهد وغيره.

وقال محمد بن كعب القرظي ؛ وابن زيد ؛ وغيرهما: العقود في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع؛ أو نكاح؛ أو غيره.

وقال ابن زيد ؛ وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان؛ وعقدة النكاح؛ وعقدة العهد؛ وعقدة البيع؛ وعقدة الحلف.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: "وقد تنحصر إلى أقل من خمس"؛ وقال ابن جريج : قوله تعالى : "أوفوا بالعقود"؛ قال: هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم؛ وقال ابن شهاب : قرأت كتاب رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - الذي كتب لعمرو بن حزم؛ حين بعثه إلى نجران؛ وفي صدره: "هذا بيان من الله ورسوله: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "؛ فكتب الآيات منها إلى قوله: إن الله سريع الحساب .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: "وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول؛ فيعمم لفظ المؤمنين جملة في مظهر الإيمان - إن لم يبطنه -؛ وفي المؤمنين حقيقة؛ ويعمم لفظ "العقود"؛ في كل ربط بقول موافق للحق؛ والشرع".

ومن لفظ العقد قول الحطيئة :


قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا



[ ص: 83 ] وقوله تعالى : أحلت لكم بهيمة الأنعام ؛ خطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله؛ وكانت للعرب سنن في الأنعام؛ من السائبة؛ والبحيرة؛ والحام؛ وغير ذلك؛ فنزلت هذه الآية رافعة لجميع ذلك.

واختلف في معنى "بهيمة الأنعام"؛ فقال السدي ؛ والربيع ؛ وقتادة ؛ والضحاك : هي الأنعام كلها.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: كأنه قال: "أحلت لكم الأنعام"؛ فأضاف الجنس إلى أخص منه. وقال الحسن: "بهيمة الأنعام": الإبل؛ والبقر؛ والغنم. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: "بهيمة الأنعام": الأجنة التي تخرج عند الذبح للأمهات؛ فهي تؤكل دون ذكاة؛ وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هذه الأجنة من بهيمة الأنعام؛ قال الطبري : وقال قوم: بهيمة الأنعام : وحشها؛ كالظباء؛ وبقر الوحش؛ والحمر؛ وغير ذلك؛ وذكره غير الطبري عن الضحاك .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قول حسن؛ وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج؛ وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له "أنعام"؛ بمجموعه معها؛ وكان المفترس من الحيوان - كالأسد؛ وكل ذي ناب - قد خرج عن حد الأنعام؛ فصار له نظر ما؛ فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع؛ وهذه - على ما قيل - إضافة الشيء إلى نفسه؛ كـ "دار الآخرة"؛ و"مسجد الجامع"؛ وما هي عندي إلا إضافة الشيء إلى جنسه؛ وصرح القرآن بتحليلها؛ واتفقت الآية وقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: "كل ذي ناب من السباع [ ص: 84 ] حرام"؛ ويؤيد هذا المنزع الاستثناءان بعد؛ إذ أحدهما استثني فيه أشخاص نالتها صفات ما؛ وتلك الصفات واقعات كثيرا في الراعي من الحيوان؛ والثاني استثني فيه حال للمخاطبين؛ وهي الإحرام؛ والحرم؛ والصيد لا يكون إلا من غير الثمانية الأزواج؛ فترتب الاستثناءان في الراعي من ذوات الأربع.

والبهيمة - في كلام العرب -: ما أبهم؛ من جهة نقص النطق والفهم؛ ومنه: "باب مبهم"؛ و"حائط مبهم"؛ و"ليل بهيم"؛ و"بهمة"؛ للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.

وقوله تعالى : إلا ما يتلى عليكم ؛ استثناء مما تلي في قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ؛ الآية؛ و"ما"؛ في موضع نصب على أصل الاستثناء؛ وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع؛ على البدل؛ وعلى أن تكون "إلا" عاطفة؛ وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة؛ أو ما قاربها من أسماء الأجناس؛ نحو قولك: "جاء الرجال إلا زيد"؛ كأنك قلت: "غير زيد"؛ بالرفع.

"غير محلي الصيد"؛ نصب "غير"؛ على الحال من الكاف والميم في قوله: "أحلت لكم"؛ وقرأ ابن أبي عبلة "غير"؛ بالرفع؛ ووجهها الصفة للضمير في: "يتلى"؛ لأن "غير محلي الصيد"؛ هو في المعنى بمنزلة: "غير مستحل إذا كان صيدا"؛ أو يتخرج على الصفة لـ "بهيمة"؛ على مراعاة معنى الكلام؛ كما ذكرت.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب "غير"؛ وقدروا فيها تقديمات؛ وتأخيرات؛ وذلك كله غير مرضي؛ لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء.

و"حرم" جمع "حرام"؛ وهو المحرم؛ ومنه قول الشاعر:


فقلت لها فيئي إليك فإنني ...     حرام وإني بعد ذاك لبيب



[ ص: 85 ] أي: "ملب"؛ وقرأ الحسن؛ وإبراهيم؛ ويحيى بن وثاب : "حرم"؛ بسكون الراء؛ قال أبو الحسن: هذه لغة تميمية؛ يقولون في "رسل": "رسل"؛ وفي "كتب": "كتب"؛ ونحوه.

وقوله: إن الله يحكم ما يريد ؛ تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب؛ أي: فأنت أيها السامع لنسخ تلك العهود التي عهدت تنبه؛ فإن الله الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد؛ لا معقب لحكمه.

وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها؛ على قلة ألفاظها؛ لكل ذي بصر بالكلام؛ ولمن عنده أدنى إبصار؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود؛ وتحليل بهيمة الأنعام؛ واستثناء ما تلي بعد؛ واستثناء حال الإحرام فيما يصاد؛ وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.

وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا للكندي: أيها الحكيم؛ اعمل لنا مثل هذا القرآن؛ فقال: نعم.. أعمل مثل بعضه؛ فاحتجب أياما كثيرة؛ ثم خرج فقال: والله ما أقدر عليه؛ ولا يطيق هذا أحد؛ إني فتحت المصحف؛ فخرجت سورة "المائدة"؛ فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء؛ ونهى عن النكث؛ وحلل تحليلا عاما؛ ثم استثنى استثناء بعد استثناء؛ ثم أخبر عن قدرته وحكمته؛ في سطرين؛ ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في أجلاد.

وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ؛ خطاب للمؤمنين حقا ألا يتعدوا حدود الله في أمر من الأمور.

و"الشعائر": جمع "شعيرة"؛ أي: "قد أشعر الله أنها حده؛ وطاعته"؛ فهي بمعنى "معالم الله"؛ واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر؛ الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر؛ فقال السدي : "شعائر الله": "حرم الله"؛ وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "شعائر الله": "مناسك الحج"؛ وكان المشركون يحجون؛ ويعتمرون؛ ويهدون؛ وينحرون؛ ويعظمون مشاعر الحج؛ فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم؛ فقال الله تعالى : لا تحلوا شعائر الله ؛ وقال ابن عباس أيضا: "شعائر الله": ما حد تحريمه في الإحرام؛ وقال عطاء بن أبي رباح : [ ص: 86 ] "شعائر الله": "جميع ما أمر به؛ أو نهى عنه"؛ وهذا هو القول الراجح الذي تقدم؛ وقال ابن الكلبي : كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر؛ وكانت قريش لا تقف بعرفات؛ فنهوا بهذه الآية.

وقوله تعالى : ولا الشهر الحرام ؛ اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم؛ وهي كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "ذو القعدة؛ وذو الحجة؛ والمحرم؛ ورجب مضر؛ الذي بين جمادى؛ وشعبان"؛ وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه؛ وتزيل فيه السلاح؛ وتنزع الأسنة من الرماح؛ وتسميه "منصل الأسنة"؛ وتسميه " الأصم "؛ من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح؛ وكانت العرب مجمعة على "ذي القعدة؛ وذي الحجة؛ والمحرم"؛ وكانت تطول عليها الحرمة؛ وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر؛ فلذلك اتخذت النسيء؛ وهو أن يحل لها ذلك المتكلم "نعيم بن ثعلبة"؛ وغيره المحرم؛ ويحرم بدله صفرا؛ فنهى الله عن ذلك بهذه الآية؛ وبقوله: إنما النسيء زيادة في الكفر ؛ وجعل المحرم أول شهور السنة؛ من حيث كان الحج والموسم غاية العام؛ وثمرته؛ فبذلك يكمل؛ ثم يستأنف عام آخر؛ ولذلك - والله أعلم - دون به عمر بن الخطاب الدواوين؛ فمعنى قوله تعالى : ولا الشهر الحرام ؛ أي: لا تحلوه بقتال؛ ولا غارة؛ ولا تبديل؛ فإن تبديله استحلال لحرمته.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب؛ ليشتد أمره؛ لأنه إنما كان مختصا بقريش؛ ثم فشا في مضر؛ ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص :


وشهر بني أمية والهدايا ...     إذا حبست مضرجها الدماء



قال أبو عبيدة : أراد رجبا؛ لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه؛ فنسبه إلى بني [ ص: 87 ] أمية؛ ذكر هذا الأخفش في "المفضليات"؛ وقد قال الطبري : المراد في هذه الآية رجب مضر.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: "فوجه هذا التخصيص هو - كما قد ذكرت - أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر؛ إذ كانت العرب غير مجمعة عليه"؛ وقال عكرمة : المراد في هذه الآية ذو القعدة؛ من حيث كان أولها؛ وقولنا فيها: "أول": تقريب وتجوز؛ إن الشهور دائرة؛ فالأول إنما يترتب بحسب نازلة؛ أو قرينة ما؛ مختصة بقوم.

وقوله تعالى : ولا الهدي ولا القلائد ؛ أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله؛ وقصدت به القربة؛ فأمر الله ألا يستحل؛ ويغار عليه.

واختلف الناس في القلائد؛ فحكى الطبري عن ابن عباس أن القلائد هي الهدي المقلد؛ وأن الهدي إنما يسمى هديا ما لم يقلد؛ فكأنه قال: "ولا الهدي الذي لم يقلد؛ والمقلد منه".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ وليس يلزم من كلام ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الهدي إنما يقال لما لم يقلد؛ وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال الهدي جملة؛ ثم ذكر المقلد منه تأكيدا؛ ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد؛ وقال جمهور الناس: الهدي عام في أنواع ما أهدي قربة؛ والقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم؛ قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من السمر قلادة؛ فلم يعرض له أحد بسوء؛ إذ كانت تلك علامة إحرامه؛ وحجه؛ وقال عطاء ؛ وغيره: بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم؛ ومن لحائه؛ فيدل ذلك على أنهم من أهل الحرم؛ أو من حجاجه؛ فيأمنون بذلك؛ فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني؛ وقال مجاهد ؛ وعطاء : بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم؛ كما [ ص: 88 ] كان أهل الجاهلية يفعلون؛ وقاله الربيع بن أنس ؛ عن مطرف بن الشخير؛ وغيره.

وقوله تعالى : ولا آمين البيت الحرام ؛ معناه: "ولا تحلوهم؛ فتغيروا عليهم"؛ ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد؛ والقربة.

وكل ما في هذه الآية؛ من نهي عن مشرك؛ أو مراعاة حرمة له بقلادة؛ أو أم البيت؛ ونحوه؛ فهو كله منسوخ بآية السيف؛ في قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .

وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري؛ أخي بني ضبيعة بن ثعلبة؛ وذلك أنه قال رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - يوما لأصحابه: "يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان"؛ فجاء الحطم؛ فخلف خيله خارجة من المدينة؛ ودخل على رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ فلما عرض رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - عليه الإسلام؛ ودعاه إلى الله قال: أنظر؛ ولعلي أسلم؛ وأرى في أمرك غلظة؛ ولي من أشاوره؛ فخرج؛ فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "لقد دخل بوجه كافر؛ وخرج بعقب غادر"؛ فمر بسرح من سرح المدينة؛ فساقه وانطلق به وهو يقول:


قد لفها الليل بسواق حطم ...     ليس براعي إبل ولا غنم


ولا بجزار على ظهر وضم ...     باتوا نياما وابن هند لم ينم


بات يقاسيها غلام كالزلم ...     خدلج الساقين خفاق القدم



[ ص: 89 ] ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجا؛ وساق هديا؛ فأراد رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - أن يبعث إليه؛ وخف إليه ناس من أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام -؛ فنزلت هذه الآية.


قال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم؛ ونزلت الآية بسبب الحطم؛ فذكر نحوه؛ وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح؛ ورسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - بمكة؛ جاء أناس من المشركين يحجون؛ ويعتمرون؛ فقال المسلمون: يا رسول الله؛ إنما هؤلاء مشركون؛ فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم؛ فنزل القرآن: ولا آمين البيت الحرام .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج؛ فهو محكم؛ وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ؛ وقرأ ابن مسعود ؛ وأصحابه: "ولا آمي البيت"؛ بالإضافة إلى البيت. وقوله تعالى : يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ؛ قال فيه جمهور المفسرين: معناه: "يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة؛ ويبتغون - مع ذلك - رضوانه في ظنهم؛ وطمعهم"؛ وقال قوم: إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد؛ وهو رضا الله وفضله؛ بالرحمة والجزاء؛ فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت؛ وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا؛ والكسب وكثرة الأولاد؛ ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني؛ وقرأ الأعمش : "ورضوانا"؛ بضم الراء.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب؛ ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس؛ ويتداخل الناس؛ ويردوا الموسم؛ فيسمعوا القرآن؛ ويدخل الإيمان في قلوبهم؛ وتقوم عندهم الحجة كالذي كان؛ وهذه الآية نزلت عام الفتح؛ ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام؛ سنة تسع؛ إذ حج أبو بكر ؛ ونودي الناس بسورة "براءة".

التالي السابق


الخدمات العلمية