الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم أول الناس ضيف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص الشارب وأول الناس رأى الشيب فقال يا رب ما هذا فقال الله تبارك وتعالى وقار يا إبراهيم فقال يا رب زدني وقارا

                                                                                                          قال يحيى وسمعت مالك يقول يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ولا يجزه فيمثل بنفسه

                                                                                                          [ ص: 451 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 451 ] 1710 1660 - ( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي ) ، وصله ابن عدي ، والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أنه قال : كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أول الناس ضيف الضيف ) ، يطلق على الواحد وغيره .

                                                                                                          ( وأول الناس اختتن ) - بهمزة وصل - روى الشيخان عن أبي هريرة قال : " قال - صلى الله عليه وسلم - : اختتن إبراهيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم " - بخفة الدال - اسم آلة النجار ، يعني : الفأس كما رواه ابن عساكر ، وروي بشدها ، وأنكره يعقوب بن شبة ، وقيل : المراد المكان الذي وقع فيه الختان ، وهو أيضا بالتخفيف ، والتشديد : قرية بالشام ، والأكثر على أنه بالتخفيف ، وإرادة الآلة كما قاله يحيى بن سعيد أحد رواته ، وأنكر النضر بن شميل الموضع ورجحه البيهقي ، والقرطبي ، والزركشي ، والحافظ مستدلا بحديث أبي يعلى : " أمر إبراهيم بالختان فاختتن بقدوم ، فاشتد عليه فأوحى الله إليه : عجلت قبل أن نأمرك بآلته قال : يا رب كرهت أن أؤخر أمرك " وجمع بأنه اختتن بالآلة وفي الموضع .

                                                                                                          وللبخاري في الأدب المفرد ، وابن حبان عن أبي هريرة مرفوعا ، وابن السماك ، وابن حبان أيضا عنه مرفوعا : " وهو ابن مائة وعشرين " ، وزادوا : وعاش بعد ذلك ثمانين سنة ، وأعل بأن عمره مائة وعشرون ، ورد بأن مثله عند ابن أبي شيبة ، وابن سعد ، والحاكم ، والبيهقي وصححاه ، وأبي الشيخ في العقيقة من وجه آخر ، وزادوا أيضا : " وعاش بعد ذلك ثمانين " ، فعلى هذا عاش مائتين ، وجمع بأن الأول حسب من منذ نبوته ، والثاني حسب من مولده ، وبأن المراد ، وهو ابن ثمانين من وقت فراق قومه وهجرته من العراق إلى الشام ، وقوله : وهو ابن مائة وعشرين ، أي من مولده ، وبأن بعض الرواة رأى مائة وعشرين ، فظنها إلا عشرين ، أو عكسه ، والأولان أولى لأنه توهيم الرواة بلا داعية ، وقد أمكن الجمع بدون توهيمهم .

                                                                                                          وفي التمهيد تواتر عن جمع من العلماء : أن إبراهيم ختن إسماعيل لثلاث عشرة سنة ، وإسحاق لسبعة أيام ، وكره جمع الختان يوم السابع .

                                                                                                          قال ابن وهب : قلت لمالك : أترى أن تختن الصبي يوم السابع ؟ فقال : لا أرى ذلك ، إنما ذلك من عمل اليهود ، ولم يكن من عمل الناس إلا حديثا ، قلت : فما حد ختانه ؟ قال : إذا أدب على الصلاة ، قلت : عشر سنين ، أو أدنى من ذلك ؟ قال : نعم .

                                                                                                          ( وأول الناس قص شاربه ، وأول الناس رأى الشيب فقال : يا رب ما هذا ؟ فقال الله تبارك وتعالى ) : هذا [ ص: 452 ] ( وقار ) حلم ، ورزانة ( يا إبراهيم فقال : رب زدني وقارا ) ، فالشيب ممدوح .

                                                                                                          وفي أبي داود عن ابن عمر مرفوعا : " لا تنتفوا الشيب فإنه نور الإسلام ، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام ، إلا كانت له نورا يوم القيامة " ، وللترمذي ، والنسائي عن كعب بن عجرة رفعه : " من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة " ، زاد الحاكم في الكنى : " ما لم يغيرها " ، وللبيهقي عنه مرفوعا : " الشيب نور المؤمن ، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام ، إلا كانت له بكل شيبة حسنة ، ورفع بها درجة " ، وللديلمي عن أنس مرفوعا : " الشيب نور ، من خلع الشيب ، فقد خلع نور الإسلام " ، وللديلمي عنه رفعه : " أيما رجل نتف شعرة بيضاء متعمدا صارت رمحا يوم القيامة يطعن به " ، وأما حديث مسلم عن أنس : أنه سئل عن شيب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما شانه الله ببيضاء ، فقال الحافظ : إنه محمول على تلك الشعرات البيض لم يتغير بها شيء من حسنه - صلى الله عليه وسلم - اه .

                                                                                                          وهذا أحسن من تعجب ابن الأثير من جعل أنس الشيب عيبا ، وتعسفه الجمع بأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أبا قحافة ورأسه كالثغامة أمرهم بتغييره وكرهه ، فلما علم أنس ذلك من عادته قال : ما شانه الله ببيضاء بناء على هذا القول ، وحملا له على هذا الرأي ، يعني كراهة الشيب ، ولم يسمع الحديث الآخر ولعل أحدهما ناسخ للآخر فإن في نفيه نظرا ، إذ أنس قد روى بعض أحاديث مدحه كما رأيت ، وكذا في ترجيه ; لأن النسخ إنما يكون بمعرفة التاريخ .

                                                                                                          قال السيوطي : زاد ابن أبي شيبة عن سعيد : وأول من قص أظفاره وأول من استحد .

                                                                                                          وزاد وكيع عن أبي هريرة : وأول من تسرول ، وأول من فرق ، وللديلمي عن أنس مرفوعا : " أنه أول من خضب بالحناء والكتم " ، ولابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه : " أنه أول من خطب على المنبر " ، ولابن عساكر عن جابر : " أنه أول من قاتل في سبيل الله " ، وله عن حسان بن عطية : " أنه أول من رتب العسكر في الحرب ميمنة وميسرة وقلبا " .

                                                                                                          ولابن أبي الدنيا في كتاب الرمي عن ابن عباس : " أنه أول من عمل القسي " ، وله في كتاب الإخوان عن تميم الداري مرفوعا : " أنه أول من عانق " ، ولابن سعد : " أنه أول من ثرد الثريد " ، وللديلمي عن نبيط بن شريط مرفوعا : " أنه أول من اتخذ الخبز المبلقس " ، ولأحمد في الزهد عن مطرف : " أنه أول من راغم " ( مالك : يؤخذ من الشارب حتى يبدو ) : يظهر ( طرف الشفة ) ظهورا بينا ، ( وهو الإطار ) بزنة كتاب ; أي اللحم المحيط بالشفة ( ولا يجزه ) - بضم الجيم - يقطعه ، ( فيمثل بنفسه ) ، وقال ابن عبد الحكم عنه : " يحفي الشوارب ويعفي [ ص: 453 ] اللحى " ، وليس إحفاء الشارب حلقه ، وأرى تأديب من حلق شاربه .

                                                                                                          وقال عنه أشهب : إن حلقه بدعة ، وأرى أن يوجع ضربا من فعله .

                                                                                                          وإلى هذا ذهب كثير ، وذهب آخرون إلى استحباب حلقه كله لظاهر حديث الصحيحين عن ابن عمر رفعه : " خالفوا المشركين ، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب " ، ورد بأن معناه : أزيلوا ما طال على الشفتين بحيث لا يؤذي الآكل ، ولا يجتمع فيه الوسخ كما قال مالك ، وتفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحفاء الشارب إنما هو الإطار يعني لحديث زيد بن أرقم ، قال : " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يأخذ من شاربه فليس منا " ، رواه أحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وقال : حسن صحيح ، فعبر بمن الصريحة في أنه لا يستأصله .

                                                                                                          قال الطحاوي : ولم نجد عن الشافعي وأصحابه الذين رأيناهم منهم : الربيع والمزني يحفيا شاربهما ، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه .

                                                                                                          وأبو حنيفة وأصحابه ، فعندهم الإحفاء في الرأس والشارب ، أفضل من التقصير .

                                                                                                          وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي كالحنفي سواء ، وقال الأثرم : رأيت أحمد يحفي شاربه شديدا ويقول : هو السنة




                                                                                                          الخدمات العلمية