الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم قال ( و ) في منية المفتي ( لو كان مع امرأته وهو يزني بها أو مع محرمه وهما مطاوعان قتلهما جميعا ) ا هـ وأقره في الدرر . وقال في البحر : ومفاده الفرق بين الأجنبية والزوجة والمحرم ، فمع الأجنبية لا يحل القتل إلا بالشرط المذكور من عدم الانزجار المزبور ، وفي غيرها يحل ( مطلقا ) ا هـ . ورده في النهر بما في البزازية وغيرها من التسوية بين الأجنبية وغيرها ، ويدل عليه تنكير الهندواني للمرأة ; نعم ما في المنية مطلق فيحمل على المقيد ليتفق كلامهم ، ولذا جزم في الوهبانية بالشرط المذكور [ ص: 64 ] مطلقا وهو الحق بلا شرط إحصان لأنه ليس من الحد بل من الأمر بالمعروف . وفي المجتبى : الأصل أن كل شخص رأى مسلما يزني يحل له أن يقتله ، وإنما يمتنع خوفا من أن لا يصدق أنه زنى ( وعلى هذا ) القياس ( المكابر بالظلم وقطاع الطريق وصاحب المكس وجميع الظلمة بأدنى شيء له قيمة ) وجميع الكبائر والأعونة والسعاة يباح قتل الكل ويثاب قاتلهم انتهى . وأفتى الناصحي بوجوب قتل كل مؤذ وفي شرح الوهبانية : ويكون بالنفي عن البلد ، وبالهجوم على بيت المفسدين ، وبالإخراج من الدار ، وبهدمها ، [ ص: 65 ] وكسر دنان الخمر وإن ملحوها ، ولم ينقل إحراق بيته ( ويقيمه كل مسلم حال مباشرة المعصية ) قنية ( و ) أما ( بعده ) ف ( ليس ذلك لغير الحاكم ) والزوج والمولى كما سيجيء

التالي السابق


( قوله ومفاده إلخ ) توفيق بين العبارتين حيث اشترط في الأولى العلم بأنه لا ينزجر بغير القتل ولم يشترط في الثانية ، فوفق بحمل الأولى على الأجنبية والثانية على غيرها وهذا بناء على أن المراد بقوله في الأولى مع امرأة : أي يزني بها ويأتي الكلام عليه ( قوله مطلقا ) زاده المصنف على عبارة المنية متابعة لشيخه صاحب البحر ( قوله بما في البزازية وغيرها ) أي كالخانية ، ففيها : لو رأى رجلا يزني بامرأته أو امرأة آخر وهو محصن فصاح به فلم يهرب ولم يمتنع عن الزنا حل له قتله ولا قصاص عليه . ا هـ . ( قوله فيحمل على المقيد ) أي يحمل قول المنية قتلهما جميعا على ما إذا علم عدم الانزجار بصياح أو ضرب . قلت : وقد ظهر لي في التوفيق وجه آخر ، وهو أن الشرط المذكور إنما هو فيما إذا وجد رجلا مع امرأة لا تحل له قبل أن يزني بها فهذا لا يحل قتله إذا علم أنه ينزجر بغير القتل سواء كانت أجنبية عن الواجد أو زوجة له أو محرما منه .

أما إذا وجده يزني بها فله قتله مطلقا ، ولذا قيد في المنية بقوله وهو يزني ، وأطلق قوله قتلهما جميعا ، وعليه فقول الخانية الذي قدمناه آنفا فصاح به غير قيد ، ويدل عليه أيضا عبارة المجتبى الآتية ثم رأيت في جنايات الحاوي الزاهدي ما يؤيده أيضا ، حيث قال : رجل رأى رجلا مع امرأته يزني بها أو يقبلها أو يضمها إلى نفسه وهي مطاوعة فقتله أو قتلهما لا ضمان عليه ، ولا يحرم من ميراثها إن أثبته بالبينة أو بالإقرار ، ولو رأى رجلا مع امرأته في مفازة خالية أو رآه مع محارمه هكذا ولم ير منه الزنا ودواعيه قال بعض المشايخ حل [ ص: 64 ] قتلهما . وقال بعضهم : لا يحل حتى يرى منه العمل : أي الزنا ودواعيه ، ومثله في خزانة الفتاوى . ا هـ . وفي سرقة البزازية : لو رأى في منزله رجلا معه أهله أو جاره يفجر وخاف إن أخذه أن يقهره فهو في سعة من قتله ، ولو كانت مطاوعة له قتلهما فهذا صريح في أن الفرق من حيث رؤية الزنا وعدمها تأمل ( قوله مطلقا ) أي بلا فرق بين أجنبية وغيرها ( قوله وهو الحق ) مفهومه أن مقابله باطل ، ولم يظهر من كلامه ما يقتضي بطلانه بل ما نقله بعده عن المجتبى يفيد صحته ، وقد علمت مما قررناه ما يتفق به كلامهم ، وأما كون ذلك من الأمر بالمعروف لا من الحد فلا يقتضي اشتراط العلم بعدم الانزجار تأمل ( قوله بلا شرط إحصان إلخ ) رد على ما في الخانية من قوله وهو محصن كما قدمناه وجزم به الطرسوسي .

قال في النهر : ورده ابن وهبان بأنه ليس من الحد بل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو حسن ، فإن هذا المنكر حيث تعين القتل طريقا في إزالته فلا معنى لاشتراط الإحصان فيه ، ولذا أطلقه البزازي . ا هـ .

قلت : ويدل عليه أن الحد لا يليه إلا الإمام ( قوله وفي المجتبى إلخ ) عزاه بعضهم أيضا إلى جامع الفتاوى وحدود البزازية ، وحاصله أنه يحل ديانة لا قضاء فلا يصدقه القاضي إلا ببينة .

والظاهر أنه يأتي هنا التفصيل المذكور في السرقة ، وهو ما في البزازية وغيرها إن لم يكن لصاحب الدار بينة فإن لم يكن المقتول معروفا بالشر والسرقة قتل صاحب الدار قصاصا وإن كان متهما به فكذلك قياسا . وفي الاستحسان : تجب الدية في ماله لورثة المقتول ; لأن دلالة الحال أورثت شبهة في القصاص لا في المال ( قوله وعلى هذا القياس إلخ ) هو من تتمة عبارة المجتبى ، وأقره في البحر والنهر ولذا مشى عليه المصنف ( قوله المكابر ) أي الآخذ علانية بطريق الغلبة والقهر . قال في المصباح : كابرته مكابرة غالبته مغالبة ( قوله وقطاع الطريق ) أي إذا كان مسافرا ورأى قاطع طريق له قتله وإن لم يقطع عليه بل على غيره ، لما فيه من تخليص الناس من شره وأذاه كما يفيده ما بعده ( قوله وجميع الكبائر ) أي أهلها . والظاهر أن المراد بها المتعدي ضررها إلى الغير ، فيكون قوله والأعونة والسعاة عطف تفسير أو عطف خاص على عام ، فيشمل كل من كان من أهل الفساد كالساحر وقاطع الطريق واللص واللوطي والخناق ونحوهم ممن عم ضرره ولا ينزجر بغير القتل ( قوله والأعونة ) كأنه جمع معين أو عوان بمعناه ، والمراد به الساعي إلى الحكام بالإفساد ، فعطف السعاة عليه عطف تفسير .

وفي رسالة أحكام السياسة عن جمع النسفي : سئل شيخ الإسلام عن قتل الأعونة والظلمة والسعاة في أيام الفترة : قال يباح قتلهم ; لأنهم ساعون في الأرض بالفساد ، فقيل إنهم يمتنعون عن ذلك في أيام الفترة ويختفون . قال : ذلك امتناع ضرورة - { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } - كما نشاهد .

قال وسألنا الشيخ أبا شجاع عنه ، فقال : يباح قتله ويثاب قاتله . ا هـ . ( قوله وأفتى الناصحي إلخ ) لعل الوجوب بالنظر للإمام ونوابه والإباحة بالنظر لغيرهم ط ( قوله ويكون بالنفي عن البلد ) ومنه ما مر من نفي الزاني البكر ونفي عمر رضي الله عنه نصر بن حجاج لافتتان النساء بجماله وفي النهر عن شرح البخاري للعيني أن من آذى الناس ينفى عن البلد ( قوله وبالهجوم إلخ ) [ ص: 65 ] من باب قعد : الدخول على غفلة بغتة قال في أحكام السياسة وفي المنتقى : وإذا سمع في داره صوت المزامير فأدخل عليه ; لأنه لما أسمع الصوت فقد أسقط حرمة داره . وفي حدود البزازية وغصب النهاية وجناية الدراية : ذكر الصدر الشهيد عن أصحابنا أنه يهدم البيت على من اعتاد الفسق وأنواع الفساد في داره ، حتى لا بأس بالهجوم على بيت المفسدين . وهجم عمر رضي الله عنه على نائحة في منزلها وضربها بالدرة حتى سقط خمارها فقيل له فيه ، فقال : لا حرمة لها بعد اشتغالها بالمحرم والتحقت بالإماء .

وروي أن الفقيه أبا بكر البلخي خرج إلى الرستاق وكانت النساء على شط النهر كاشفات الرءوس والذراع ، فقيل له : كيف فعلت هذا ؟ فقال : لا حرمة لهن ، إنما الشك في إيمانهن كأنهن حربيات ، وهكذا في جنايات مجمع الفتاوى . وذكر في كراهية البزازية عن الواقعات الحسامية : ويقدم إبداء العذر عن مظهر الفسق بداره ، فإن كف فيها وإلا حبسه الإمام أو أدبه أسواطا أو أزعجه من داره ، إذ الكل يصلح تعزيرا . وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أحرق بيت الخمار . وعن الصفار الزاهدي الأمر بتخريب دار الفاسق ( قوله وإن ملحوها ) أي تكسر وإن قال أصحابها نلقي فيها ملحا لأجل تخليلها . وفي كراهية البزازية قال في العيون : وفتاوى النسفي إنه يكسر دنان الخمر ، ولا يضمن الكاسر ، ولا يكتفي بإلقاء الملح ، وكذا من أراق خمور أهل الذمة وكسر دنانها وشق زقاقها إن كانوا أظهروها بين المسلمين لا يضمن ; لأنهم لما أظهروها بيننا فقد أسقطوا حرمتها . وفي سير العيون : يضمن إلا إذا كان إماما يرى ذلك ; لأنه مختلف فيه ، وفي المسلم يضمن الزق مسلم في منزله دن من خمر يريد اتخاذها خلا يضمن الدن عند الثاني ، وإن لم يرد الاتخاذ لا يضمن عند الثاني .

وذكر الخصاف أن الكسر لو بإذن الإمام لا يضمن وإلا يضمن . وأصله فيمن كسر بربطا لمسلم والفتوى على قولهما في عدم الضمان . ا هـ . ( قوله ولم ينقل إحراق بيته ) تقدم نقله عن عمر في بيت الخمار ، فالمراد أنه لم ينقل عن علمائنا ، لكن ما مر عن الصفار يفيده ( قوله ويقيمه إلخ ) أي التعزير الواجب حقا لله تعالى ; لأنه من باب إزالة المنكر ، والشارع ولى كل أحد ذلك حيث قال صلى الله عليه وسلم " { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه } " الحديث ، بخلاف الحدود لم يثبت توليتها إلا للولاة ، وبخلاف التعزير الذي يجب حقا للعبد بالقذف ونحوه فإنه لتوقفه على الدعوى لا يقيمه إلا الحاكم إلا أن يحكما فيه . ا هـ . فتح ( قوله قنية ) هذا العزو لقوله حال مباشرة المعصية ، وأما قوله يقيمه كل مسلم فقد صرح به في الفتح وغيره ( قوله وأما بعده إلخ ) تصريح بالمفهوم . قال في القنية ; لأنه لو عزره حال كونه مشغولا بالفاحشة فله ذلك ; لأنه نهي عن المنكر وكل واحد مأمور به ، وبعد الفراغ ليس بنهي ; لأن النهي عما مضى لا يتصور فيتمحص تعزيرا ، وذلك إلى الإمام . ا هـ . وذكر قبله أن للمحتسب أن يعزر المعزر إن عزره بعد الفراغ منها




الخدمات العلمية