الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 308 ] قال ( ولا يقضي القاضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه ) وقال الشافعي رحمه الله : يجوز لوجود الحجة وهي البينة فظهر الحق . ولنا أن العمل بالشهادة لقطع المنازعة ، ولا منازعة دون الإنكار ولم يوجد ، [ ص: 309 ] ولأنه يحتمل الإقرار والإنكار من الخصم فيشتبه وجه القضاء لأن أحكامهما مختلفة ، ولو أنكر ثم غاب فكذلك لأن الشرط قيام الإنكار وقت القضاء ، وفيه خلاف أبي يوسف رحمه الله ، ومن يقوم مقامه قد يكون نائبا بإنابته كالوكيل [ ص: 310 ] أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي ، وقد يكون حكما بأن كان ما يدعي على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر [ ص: 311 ] وهذا في غير صورة في الكتب ، أما إذا كان شرطا لحقه فلا معتبر به في جعله خصما [ ص: 312 ] عن الغائب وقد عرف تمامه في الجامع

التالي السابق


( قوله ولا يقضي القاضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه ، وقال الشافعي يجوز ) إذا كان غائبا عن البلد أو فيها وهو مستتر قولا واحدا وهو قول مالك وأحمد ، وإن كان في البلد غير مختف فله قولان أصحهما لا يحكم عليه بدون حضوره وهو قول مالك . والفرق أن في المستتر تضييع الحقوق لو لم يحكم وفي غيره لا . احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } فاشتراط حضور الخصم زيادة عليه بلا دليل .

ولنا { قوله صلى الله عليه وسلم لعلي حين استقضاه على اليمن لا تقض لأحد الخصمين بشيء حتى تسمع كلام الآخر } وقدمناه من رواية أبي داود وغيره وتصحيحه وتحسينه ، فعلم أن جهالة كلامه مانعة من القضاء ، وذلك ثابت مع غيبته وغيبة من يقوم معه ، ولأن حجية البينة على وجه يوجب العمل بها موقوف على عجز المنكر عن الدفع والطعن فيها ، والعجز عنه لا يعلم إلا مع حضوره أو نائبه ، ولأن شرط العمل بها الإنكار حتى لا تسمع على مقر ، ولا يقضى بها إذا اعترض الإقرار قبل القضاء وبغيبته يفوت [ ص: 309 ] العلم بوجود شرط العمل به وهو الإنكار ، وما لم يعلم بوجود الشرط لا يحكم بثبوت المشروط وهو صحة الحكم ، ولا يكتفي في الحكم بثبوته كونه الأصل لأنه يترتب عليه وجود أمر فلا بد من ثبوت وجوده ، ولذا قلنا جميعا فيمن قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر فمضى اليوم وقال السيد دخلت وقال العبد لم أدخل لا يحكم بوجود العتق لوجود الشرط بناء على أن الأصل عدم الدخول لما ذكرنا أنه جعل شرطا لحدوث أمر آخر فلا يحكم بوجوده [ ص: 310 ] بناء على الأصل .

فإن قيل : الخلاف ثابت فيما لو حضر وأنكر ثم غاب . قلنا : لأن بقاء الإنكار شرط القضاء بالبينة وهو محتمل لجواز الرجوع عنه إلا بالنظر إلى الأصل ولا عبرة به ، وإنما يقضى عليه بالبينة إذا حضر وسكت لإنزال الشرع إياه منكرا لا لأنه غير منكر ، وما قيل وقف البينة على حضوره غير مفيد لأنه إما أن يقر أو ينكر .

وعلى الوجهين الدعوى لازمة عليه فليس بشيء لأن مع حضوره يحتمل أن يقر فيبطل حكم البينة أولا ، فيطعن في البينة ويثبته أو لا يطعن فيقضى عليه بالبينة ، ومع غيبته يشتبه وجه القضاء فلا يجوز ، وهذا لأن حكم الحاكم بالبينة أن ينفذ في حق سائر الناس وبالإقرار يقتصر على المقر ، ويظهر ذلك فيمن اشترى جارية فولدت عنده فاستحقها رجل بالبينة يأخذها وولدها ، ولو أقر بها لرجل لم يأخذ ولدها ولا يرجع بالثمن على بائعها وبالبينة ترجع الباعة بعضهم على بعض . وما ذكرناه فيما لو أنكر ثم غاب قول أبي حنيفة ; لأن الشرط قيام الإنكار وقت القضاء ، وفيه خلاف أبي يوسف فإنه قال : يحكم بها لأن إنكاره سمع نصا فوجد شرط حجيتها كما لو أقر ثم غاب يقضي بالإقرار . وفي نوادر ابن سماعة عن محمد أنه لا يقضى بالبينة ويقضى بالإقرار ، وهو قول أبي حنيفة لأن في البينة للمدعى عليه حق الطعن في البينة والقضاء عليه حال غيبته يبطل هذا الحق ، أما ليس له حق الطعن في إقراره فالقضاء عليه حال غيبته ثم لا يبطل حقا له .

وكان أبو يوسف يقول أولا : لا يقضى بالبينة والإقرار على الغائب جميعا ، ثم رجع لما ابتلي بالقضاء ، وقال : يقضى فيهما جميعا واستحسنه حفظا لأموال الناس ، فإذا علمنا أنه لا بد من حضوره أو حضور من يقوم مقامه ، فمن يقوم مقامه أحد ثلاث : نائب بإنابته كوكيله ، أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي . وقد يكون حكما : يعني شخصا يقوم مقامه حكما ، أي يكون قيامه عنه حكما لأمر لازم له ، واقتصر المصنف عليها نفيا للمسخر من جهة القاضي فإن فيه اختلاف الروايتين وهو الذي ينصبه القاضي ليسمع عليه الدعوى ، وكذا لو أحضر المدعي رجلا غير خصمه ليسمع القاضي الخصومة والقاضي يعلم أنه ليس بخصم لا يسمع الخصومة عليه ولا على المسخر من جهته ، وإنما يجوز نصب القاضي الوكيل عن خصم اختفى في بيته ولا يحضر مجلس الحكم ، ولكن بعد أن يبعث أمناءه إلى باب داره فينادي على باب داره ويقول [ ص: 311 ] احضر مجلس الحكم وإلا يحكم عليك ، أما في غير ذلك الموضع فلا .

وذكر محمد في الجامع . رجل غاب وجاء رجل فادعى على رجل ذكر أنه غريم الغائب والغائب وكله بطلب كل حق له على غرمائه بالكوفة وبالخصومة والمدعى عليه ينكر وكالته فأقام بينة على وكالته قضى عليه بالوكالة : يعني على الغائب . قال شيخ الإسلام : فيه دليل على جواز الحكم على المسخر ، فإنه قال ذكر أنه غريم الغائب ولم يقل هو غريم الغائب . قال الصدر الشهيد هذا محمول على ما إذا لم يعلم القاضي أنه مسخر .

والوجه أن يحمل على إحدى الروايتين كما ذكر ظهير الدين في فتاواه أن في نفاذ قضاء القاضي على الغائب روايتين ، ذكر شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام أنه ينفذ ، وغيرهما من المشايخ قالوا : لا ينفذ ، وفي مفقود خواهر زاده ، لا ينبغي للقاضي أن يقضي للغائب من غير خصم كما لا ينبغي للقاضي أن يقضي على الغائب ، إلا أن مع هذا لو وكل وكيلا وأنفذ الخصومة بينهم فهو جائز وعليه الفتوى انتهى .

والذي يقتضيه النظر أن يقال إن نفاذ القضاء على الغائب موقوف على إمضاء قاض ، لأن نفس القضاء هو المجتهد فيه فهو كقضاء المحدود في قذف ونحوه ، وحيث قضى على غائب فلا يكون عن إقرار عليه .

ومن فروعه مسألة عجيبة في الفصل الأول من الفتاوى الصغرى : عين في يد رجل ادعى آخر أنه ملكه اشتراه من فلان الغائب وصدقه ذو اليد فالقاضي لا يأمر ذا اليد أن يسلمها إلى المدعي حتى لا يكون قضاء على الغائب بالشراء بإقراره ، وهي عجيبة لأنه اعترف بالملك للمدعي ولا يقضى عليه بالتسليم . قال : وأحال الصدر الشهيد هذه المسألة إلى باب اليمين من أدب القاضي ولم أجدها ثمة .

وأما الثالث فما إذا كان ما يدعيه على الغائب سببا لا محالة ، لما يدعيه على الحاضر بحيث لا ينفك عنه ( وهو في غير صورة في الكتب بخلاف ما إذا كان ) ما يدعيه الغائب ( شرطا لحقه ) لا سببا لا محالة ، أو قد يكون سببا وقد لا يكون ( فإنه لا معتبر به في جعل الحاضر خصما [ ص: 312 ] عن الغائب ) قال المصنف ( وقد عرف تمامه في الجامع ) . مثال السبب الملزوم لا محالة في ست مسائل : ثلاث فيما يكون المقضي شيئين ، وثلاث فيما يكون واحدا .

أما ثلاث الواحد : إحداها ادعى دارا في يد رجل أنها ملكه وأنكر ذو اليد فأقام البينة أنها داره اشتراها من فلان الغائب وهو يملكها فإنه يقضى بها في حق الحاضر والغائب ، لأن الشراء سبب لثبوت ما يدعيه على الحاضر لأن الشراء من المالك سبب لا محالة لملكه . والثانية ادعى على آخر أنه كفل عن فلان الغائب بما يذوب له عليه فأقر المدعى عليه بالكفالة وأنكر الذوب فأقام المدعي البينة أنه ذاب له على فلان ألف يقضى بها على الكفيل والغائب ، حتى لو حضر وأنكر لا يلتفت إلى إنكاره .

الثالثة ادعى شفعة في دار في يد إنسان فقال ذو اليد الدار داري ما اشتريتها من أحد فأقام المدعي البينة أن ذا اليد اشتراها من فلان الغائب بألف وهو يملكها وأنا شفيعها يقضي بالشراء في حق ذي اليد والغائب . ومثال ثلاث الشيئين : إحداها قذف محصنا فادعى عليه الحد فقال القاذف أنا عبد وعلي حد العبيد وقال المدعي المقذوف بل أعتقك مولاك فعليك حد الأحرار والمولى غائب فأقام البينة على ذلك تقبل هذه البينة ويقضى بالعتق في حق الحاضر والغائب جميعا ، حتى لو حضر وأنكر العتق لا يلتفت إلى إنكاره فالعتق سبب لكمال الحد وهو المدعي على الحاضر فهما شيئان .

الثانية شاهدان شهدا على رجل بمال فقال المشهود عليه هما عبدان لفلان الغائب فأقام المشهود له البينة أن مولاهما أعتقهما قبل هذا وهو يملكهما تقبل البينة ويثبت العتق في حق المشهود عليه والمولى الغائب لأن العتق لا ينفك عن ولاية الشهادة .

الثالثة : رجل قتل رجلا عمدا وله وليان غاب أحدهما وادعى الحاضر على القاتل أن الغائب عفا عن نصيبه وانقلب نصيبي مالا وأنكر القاتل فأقام المدعي البينة على ذلك تقبل ويقضى بها على الحاضر والغائب جميعا . فإن قيل : هذا منتقض بما إذا كان العبد بين غائب وحاضر فادعى العبد على الحاضر منهما أن الغائب أعتق نصيبه وهو موسر وادعى قصر يد الحاضر عن نفسه لصيرورته مكاتبا عند أبي حنيفة وأقام البينة على الحاضر بذلك لا تقبل هذه البينة أصلا مع أن إعتاق الغائب نصيبه سبب لقصر يد الحاضر عنه لا محالة . أجيب بأن عدم القبول عنده هنا لا لعدم الخصم عن الغائب بل لجهالة المقضي عليه بالكتابة لأن الساكت إذا اختار تضمين المعتق يصير العبد مكاتبا من جهة المعتق ، وإن اختار الاستسعاء يصير مكاتبا من جهة الساكت فكان المقضي عليه بالكتابة مجهولا فلم يقبل .

وأما ما لا يكون فيه ما يدعي به على الغائب سببا لا محالة لما يدعيه على الحاضر ، بل قد يكون وقد لا يكون ، فقد يكون أيضا شيئين وقد يكون واحدا ، وبيانه في مسألتين : إحداهما قال لعبد رجل مولاك وكلني بحملك إليه فأقام العبد البينة أن مولاه أعتقه تقبل في حق قصر يد الحاضر ولا تقبل في حق العتق على الغائب ، حتى لو حضر الغائب وأنكر العتق يحتاج العبد إلى إعادة البينة به .

والثانية : رجل قال لامرأة غائب وكلني زوجك بحملك إليه فأقامت بينة أنه طلقها ثلاثا يقضي بقصر يد الوكيل عنها دون الطلاق ، فلو حضر وأنكر [ ص: 313 ] الطلاق يحتاج إلى إعادتها أو بينة أخرى فالمدعي العتق وقصر اليد والطلاق وقصر اليد ، لأن العتق والطلاق قد يتحقق ولا يوجب انعزال الوكيل بأن لا يكون هناك وكالة ، وقد يتحقق موجبا للانعزال بأن وجد بعد الوكالة ، فليس انعزال الوكيل حكما أصليا للطلاق والعتاق ، فمن حيث إنه ليس سببا لحق الحاضر في الجملة لا يكون الحاضر فيه خصما عن الغائب ، ومن حيث إنه قد يكون سببا قبلنا البينة فيما يرجع إلى حق الحاضر في قصر يده وانعزاله عن الوكالة لأنه ليس من ضرورة انعزال الوكيل تحقق الطلاق والعتاق ، ولا من ضرورة تحقق الطلاق والعتاق انعزال الوكيل فلا يقضى بالطلاق والعتاق .

ومن هذا القسم وهو دعوى شيئين ، إلا أن ما يدعيه على الغائب ليس سببا لما يدعيه على الحاضر إلا باعتبار البقاء فبيانه في مسائل : إحداها قالوا فيمن اشترى جارية فادعى المشتري على البائع أنه كان زوجها من فلان الغائب ولم يعلم المشتري ويريد أن يردها بهذا العيب وأنكر البائع فأقام المشتري على ذلك بينة فإنه لا يقضى بها لا في حق الحاضر ولا في حق الغائب ، لأن المدعى شيئان : الرد بالعيب على الحاضر ، والنكاح على الغائب . والنكاح المدعى به على الغائب ليس سببا لما يدعي على الحاضر إلا باعتبار البقاء لجواز أن يكون تزوجها ثم طلقها ، فإن أقام البينة على البقاء بأن شهدوا على أنها امرأته للحال لا تقبل أيضا لأن البقاء تبع للابتداء . والثانية المشتري شراء فاسدا إذا أراد البائع الاسترداد فأقام البينة أنه باع من فلان الغائب لا تقبل لإبطال حق الاسترداد لا في حق الحاضر ولا في حق الغائب ، لأن نفس البيع ليس سببا لبطلان حق البائع في الاسترداد لجواز أنه باع ثم انفسخ البيع بينهما فيعود حق البائع في الاسترداد ، وإذا لم يكن خصما في إثبات نفس البيع لم يكن خصما في إثبات البقاء لأن البقاء تبع للابتداء كما ذكرنا . الثالثة رجل في يده دار بيعت بجنبها دار فأراد ذو اليد أن يأخذ المشتراة بالشفعة فقال المشتري له : الدار التي بيدك ليست لك وإنما هي لفلان فأقام الشفيع البينة أنها داره اشتراها من فلان الغائب لا يقضى بالشراء لا في حق الحاضر ولا في حق الغائب ، لأن المدعى شيئان ، والمدعى على الغائب من شراء الدار ليس سببا لثبوت حقه في الشفعة ما لم يثبت البقاء ، لأنه لو فسخ بعد الشراء وأزالها عن ملكه بسبب من الأسباب لا يكون له شفعة ، وإنما تكون الشفعة باعتبار البقاء ولا بينة عليه ; ولو أقام على البقاء لم تقبل أيضا لما ذكرنا . وأما ما يكون شرطا فعامة المشايخ فيه على أنه لا ينتصب الحاضر خصما عن الغائب فيما يدعيه . وصورته : قال لامرأته إن طلق فلان امرأته فأنت طالق ، فادعت أن فلانا طلق زوجته وأقامت البينة على ذلك لا يقضى بوقوع الطلاق بها لأنه ابتداء القضاء على الغائب .

وقد أفتى بعض المتأخرين كفخر الإسلام والأوزجندي فيه بانتصاب الحاضر خصما عن الغائب ، ويقضى بوقوع الطلاق كما لو قال إن دخل فلان الدار فأنت طالق فبرهنت على دخول فلان حيث يصح وإن كان فلان غائبا . والجواب أنه ليس في هذا قضاء على الغائب بشيء إذ ليس فيه إبطال حق له فصار الأصل أن ما كان شرطا لثبوت الحق للحاضر من غير إبطال حق الغائب قبلت البينة فيه إذ ليس فيه قضاء على الغائب ، وما تضمن إبطالا عليه لا يقبل .




الخدمات العلمية