الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ أرباب الحيل نوعان ]

ثم أرباب هذه الحيل نوعان : نوع يقصد به حصول مقصوده ، ولا يظهر أنه حلال ، كحيل اللصوص وعشاق الصور المحرمة ونحوهما ، ونوع يظهر صاحبه أن مقصوده خير وصلاح ويبطن خلافه .

وأرباب النوع الأول أسلم عاقبة من هؤلاء ; فإنهم أتوا البيوت من أبوابها والأمر من طريقه ووجهه ، وأما هؤلاء فقلبوا موضوع الشرع والدين ، ولما كان أرباب هذا النوع إنما يباشرون الأسباب الجائزة ولا يظهرون مقاصدهم أعضل أمرهم ، وعظم الخطب بهم ، وصعب الاحتراز منهم ، وعز على العالم استنقاذ قتلاهم ، فاستبيحت بحيلهم الفروج ، وأخذت بها الأموال من أربابها فأعطيت لغير أهلها ، وعطلت بها الواجبات ، وضيعت بها الحقوق ، وعجت الفروج والأموال والحقوق إلى ربها عجيجا ، وضجت مما حل بها إليه ضجيجا ، ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام ، والإفتاء بها حرام ، والشهادة على مضمونها حرام ، والحكم بها مع العلم بحالها حرام ، والذي جوزوا منها ما جوزوا من [ ص: 259 ]

الأئمة لا يجوز أن يظن بهم أنهم جوزوه على وجه الحيلة إلى المحرم ، وإنما جوزوا صورة ذلك الفعل .

ثم إن المتحيل المخادع المكار أخذ صورة ما أفتوا به فتوسل به إلى ما منعوا منه ، وركب ذلك على أقوالهم وفتاواهم ، وهذا فيه الكذب عليهم وعلى الشارع ، مثاله أن الشافعي رحمه الله تعالى يجوز إقرار المريض لوارثه ; فيتخذه من يريد أن يوصي لوارثه وسيلة إلى الوصية له بصورة الإقرار .

ويقول : هذا جائز عند الشافعي ، وهذا كذب على الشافعي ; فإنه لا يجوز الوصية للوارث بالتحيل عليها بالإقرار ; فكذلك الشافعي يجوز للرجل إذا اشترى من غيره سلعة بثمن أن يبيعه إياها بأقل مما اشتراها منه بناء على ظاهر السلامة . ولا يجوز ذلك حيلة على بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة ; فالذي يسد الذرائع يمنع ذلك ويقول : هو يتخذ حيلة إلى ما حرمه الله ورسوله ، فلا يقبل إقرار المريض لوارثه ، ولا يصح هذا البيع . ولا سيما فإن إقرار المرء شهادة على نفسه ، فإذا تطرق إليها التهمة بطلت كالشهادة على غيره . والشافعي يقول : أقبل إقراره إحسانا للظن بالمقر ، وحملا لإقراره على السلامة ، ولا سيما عند الخاتمة .

ومن هذا الباب احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج بما يعلمه إياها أرباب المكر والاحتيال ، بأن تنكر أن تكون أذنت للولي ، أو بأن النكاح لم يصح ; لأن الولي أو الشهود جلسوا وقت العقد على فراش حرير ، أو استندوا إلى وسادة حرير .

وقد رأيت من يستعمل هذه الحيلة إذا طلق الزوج امرأته ثلاثا ، وأراد تخليصه من عار التحليل وشناره أرشده إلى القدح في صحة النكاح بفسق الولي أو الشهود ، فلا يصح الطلاق في النكاح الفاسد . وقد كان النكاح صحيحا لما كان مقيما معها عدة سنين ، فلما أوقع الطلاق الثلاث فسد النكاح .

ومن هذا احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه لم يكن بالغا وقت العقد ، أو لم يكن رشيدا ، أو كان محجورا عليه ، أو لم يكن المبيع ملكا له ولا مأذونا له في بيعه

التالي السابق


الخدمات العلمية