الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون

قال ابن عباس ؛ والصحابة؛ وقتادة : المراد بـ "الذين": اليهود والنصارى؛ أي: فرقوا دين إبراهيم؛ الحنيفية؛ وأضيف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه؛ إذ هو دين الله تعالى الذي ألزمه العباد؛ فهو دين جميع الناس بهذا الوجه؛ ووصفهم بالشيع؛ إذ كل طائفة منهم لها فرق؛ واختلافات؛ ففي الآية حض لأمة محمد - صلى اللـه عليه وسلم - على الائتلاف؛ وقلة الاختلاف؛ وقال أبو الأحوص ؛ وأم سلمة - رضي الله عنها -؛ زوج النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: الآية في أهل البدع؛ والأهواء؛ والفتن؛ ومن جرى مجراهم من أمة محمد - عليه الصلاة والسلام -؛ أي: فرقوا دين الإسلام.

[ ص: 502 ] وقرأ علي بن أبي طالب ؛ وحمزة ؛ والكسائي : "فارقوا"؛ ومعناه: "تركوا"؛ ثم بين قوله: "وكانوا شيعا"؛ أنهم فرقوه أيضا؛ والشيع: جمع "شيعة"؛ وهي الفرقة؛ على مقصد ما يتشايعون عليه.

وقوله تعالى لست منهم في شيء ؛ أي: "لا تشفع لهم؛ ولا لهم بك تعلق"؛ وهذا على الإطلاق في الكفار؛ وعلى جهة المبالغة في العصاة؛ والمتنطعين في الشرع؛ لأنهم لهم حظ من تفريق الدين.

وقوله تعالى إنما أمرهم إلى الله ؛ إلى آخر الآية؛ وعيد محض؛ والقرينة المتقدمة تقتضي أن: أمرهم إلى الله ؛ فيه وعيد؛ كما أن القرينة في قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ؛ تعطي أن في ذلك الأمر رجاء؛ كأنه قال: "وأمره في إقبال؛ وإلى خير".

وقرأ النخعي ؛ والأعمش ؛ وأبو صالح : "فرقوا"؛ بتخفيف الراء؛ وقال السدي : هذه آية لم يؤمر فيها بقتال؛ وهي منسوخة بالقتال.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا كلام غير متقن؛ فإن الآية خبر؛ لا يدخله نسخ؛ ولكنها تضمنت بالمعنى أمرا بموادعة؛ فيشبه أن يقال: إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي تقرر في آيات أخر.

وقوله تعالى من جاء بالحسنة ؛ الآية؛ قال أبو سعيد الخدري ؛ وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: هذه الآية نزلت في الأعراب الذين آمنوا بعد الهجرة؛ فضاعف الله حسناتهم؛ للحسنة عشر؛ وكان المهاجرون قد ضوعف لهم؛ للحسنة سبعمائة.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا تأويل يحتاج إلى سند يقطع العذر.

وقالت فرقة: هذه الآية لجميع الأمة؛ أي: "إن الله تعالى يضاعف الحسنة بعشر؛ ثم بعد هذا [ ص: 503 ] المضمون قد يزيد ما يشاء؛ وقد يزيد أيضا على بعض الأعمال كنفقة الجهاد؛ وقال ابن مسعود ؛ ومجاهد ؛ والقاسم بن أبي بزة؛ وغيرهم: الحسنة ههنا: "لا إله إلا الله"؛ والسيئة: "الكفر".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه هي الغاية من الطرفين.

وقالت فرقة: ذلك لفظ عام في جميع الحسنات والسيئات؛ وهذا هو الظاهر؛ وأنث لفظ العشر لأن الأمثال ههنا بالمعنى حسنات؛ ويحتمل أن الأمثال أنث لما أضيف إلى مؤنث؛ وهو الضمير؛ كما قال الشاعر:


مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم



فأنث.

وقرأ الحسن؛ وسعيد بن جبير ؛ وعيسى بن عمر ؛ والأعمش ؛ ويعقوب: "فله عشر"؛ بالتنوين؛ "أمثالها"؛ بالرفع.

وروي عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أنه قال: "الأعمال ست موجبة وموجبة؛ ومضعفة ومضعفة؛ ومثل ومثل؛ فلا إله إلا الله توجب الجنة؛ والشرك يوجب النار؛ ونفقة الجهاد تضعف سبعمائة ضعف؛ والنفقة على الأهل حسنتها بعشر؛ والسيئة جزاؤها مثلها؛ ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها".

[ ص: 504 ] وقوله تعالى "لا يظلمون"؛ أي: لا يوضع في جزائهم شيء في غير موضعه؛ وتقدير الآية: "من جاء بالحسنة فله ثواب عشر أمثالها"؛ والمماثلة بين الحسنة والثواب مترتبة إذا تدبرت؛ وقال الطبري : قوله: "من جاء بالحسنة"؛ الآية؛ يريد: من الذين فرقوا دينهم؛ أي: "من جاء مؤمنا فله الجنة".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والقصد بالآية إلى العموم في جميع العالم أليق باللفظ.

التالي السابق


الخدمات العلمية