الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 592 ] قوله - عز وجل -:

أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين

هذه ألف استفهام دخلت على الواو العاطفة؛ والاستفهام هنا بمعنى التقرير؛ والتوبيخ؛ وعجبهم الذي وقع إنما كان على جهة الاستبعاد والاستمحال؛ هذا هو الظاهر من قصتهم؛ وقوله تعالى "على"؛ قيل: هي بمعنى "مع"؛ وقيل: هو على حذف مضاف؛ تقديره: "على لسان رجل منكم".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحتمل أن يكون المجيء بنفسه في هذا الموضع يصل بـ "على"؛ إذ كل ما يأتي من الله - تبارك وتعالى - فله حكم النزول؛ فكأن "جاءكم"؛ معناه: "نزل"؛ فحسن معه أن يقال: "على رجل"؛ واللام في "لينذركم"؛ لام "كي"؛ وقوله تعالى "ولعلكم"؛ ترج؛ بحسب حال نوح - عليه السلام -؛ ومعتقده؛ لأن هذا الخبر إنما هو من تلقاء نوح - عليه السلام.

وقوله تعالى فكذبوه ؛ الآية؛ أخبر الله تعالى عنهم أنهم بعد تلطفه بهم كذبوه؛ فأنجاه الله تعالى ؛ والمؤمنين به؛ في السفينة؛ وهي الفلك؛ و"الفلك"؛ للجمع؛ والمفرد؛ وليس على حد "جنب"؛ ونحوه؛ لكن "فلك"؛ للواحد؛ كسر على "فلك"؛ للجميع؛ فضمة الفاء في الواحد ليست هي في الجمع؛ و"فعل"؛ بناء تكسير؛ مثل: "أسد"؛ و"أسد"؛ ويدل على ذلك قولهم في التثنية: "فلكان"؛

وفي التفسير: إن الذين كانوا مع نوح - عليه السلام - في السفينة أربعون رجلا - وقيل: ثمانون؛ وقيل: عشرة - فهم أولاده: "يافث"؛ و"سام"؛ و"حام"؛ وفي كثير من كتب الحديث؛ للترمذي [ ص: 593 ] وغيره: "إن جميع الخلق الآن من ذرية نوح - عليه السلام"؛ وقال الزهري في كتاب النقاش : وفي القرآن: ذرية من حملنا مع نوح .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فيحتمل أن يكون سائر العشرة؛ أو الأربعين - حسب الخلاف - حفدة لنوح - عليه السلام -؛ ومن ذريته؛ فتجتمع الآية؛ والحديث؛ ويحتمل أن من كان في السفينة - غير بنيه - لم ينسل -؛ وقد روي ذلك - وإلا لكان بين الحديث والآية تعارض.

وقوله تعالى كذبوا بآياتنا ؛ يقتضي أن نوحا - عليه السلام - كانت له آيات ومعجزات.

وقوله: "عمين"؛ وزنه "فعين"؛ وهو جمع "عم"؛ وزنه "فع"؛ ويريد: عمى البصائر؛ وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نوحا - عليه السلام - بعث ابن أربعين سنة؛ قال ابن الكلبي : بعد آدم - عليه السلام - بثمانمائة سنة؛ وجاء بتحريم البنات؛ والأخوات؛ والأمهات؛ والخالات؛ والعمات؛ وقال وهب بن منبه : بعث نوح وهو ابن أربعمائة سنة؛ وقيل: بعث ابن ثلاثمائة سنة؛ وقيل: ابن خمسين سنة؛ وروي أنه عمر بعد الغرق ستين سنة؛ وروي أن الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وأتى في حديث الشفاعة؛ وغيره؛ أن نوحا - عليه السلام - أول نبي بعث إلى الناس؛ وأتى أيضا أن إدريس - عليه السلام - قبل نوح - عليه السلام -؛ ومن آبائه؛ وذلك يجتمع بأن تكون بعثة نوح مشتهرة لإصلاح الناس؛ وحملهم بالعذاب؛ والإهلاك؛ على الإيمان؛ فالمراد أنه أول نبي بعث على هذه الصفة.

التالي السابق


الخدمات العلمية