الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اختلفوا في الأمن المسئول في هذه الآية على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : سأله الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : سأله الأمن من الخسف والمسخ .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : سأله الأمن من القتل وهو قول أبي بكر الرازي ، واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولا ، ثم سأله الرزق ثانيا ، ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكرارا فقال في هذه الآية : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) وقال في آية أخرى : ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) [إبراهيم : 35] ثم قال في آخر القصة : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) [إبراهيم : 37] إلى قوله : ( وارزقهم من الثمرات ) واعلم أن هذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول : لعل الأمن المسئول هو الأمن من الخسف والمسخ ، أو لعله الأمن من القحط ، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اختلفوا في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو إنما صارت كذلك بدعوته فقال قائلون : إنها كانت كذلك أبدا لقوله عليه السلام : " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض " وأيضا قال إبراهيم : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) [إبراهيم : 37] وهذا يقتضي أنها كانت محرمة قبل ذلك ، ثم إن إبراهيم عليه السلام أكده بهذا الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال آخرون : إنها إنما صارت حرما آمنا بدعاء إبراهيم عليه السلام وقبله كانت كسائر البلاد والدليل عليه قوله عليه السلام : " اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة " .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : إنها كانت حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة . فالأول بمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم . والثاني بالأمر على ألسنة الرسل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : إنما قال في هذه السورة : ( بلدا آمنا ) على التنكير وقال في سورة إبراهيم : ( هذا البلد آمنا ) [إبراهيم : 35] على التعريف لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلدا آمنا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) [إبراهيم : 37] فقال : ههنا اجعل هذا الوادي بلدا آمنا ، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة ، كقولك : جعلت هذا الرجل آمنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن تكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المكان بلدا ، فقوله : ( اجعل هذا بلدا آمنا ) تقديره : اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، كقولك : كان اليوم يوما حارا ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة ، لأن التنكير يدل على المبالغة ، فقوله : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا ) معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن ، وأما قوله : ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) [إبراهيم : 35] فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة ، وأما قوله : ( وارزق أهله من الثمرات ) فالمعنى أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة أقواتهم ، فاستجاب الله [ ص: 51 ] تعالى له فصارت مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء ، أما قوله : ( من آمن منهم ) فهو بدل من قوله : ( أهله ) يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة ، وهو كقوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) [آل عمران : 97] واعلم أنه تعالى لما أعلمه أن منهم قوما كفارا بقوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس ، أما النص فقوله تعالى : ( فلا تأس على القوم الكافرين ) [المائدة : 68] وأما القياس فمن وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته ، قال الله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) فصار ذلك تأديبا في المسألة ، فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة ، لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم إن الله تعالى أعلمه بقوله : ( فأمتعه قليلا ) الفرق بين النبوة ورزق الدنيا ، لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين ، لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار ، أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق ، فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه ، ومن كفر فالنار مستقره ومأواه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج ، فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية