الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 328 ] قوله عز وجل:

لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون

في هذه الآية تحقير لهم، وذلك أنه أخبر أنهم قديما سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم، ومعنى قوله: "من قبل" ما كان من حالهم من وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها، ومعنى وقلبوا لك الأمور دبروها ظهرا لبطن. ونظروا في نواحيها وأقسامها، وسعوا بكل حيلة، وقرأ مسلمة بن محارب: "وقلبوا لك" بالتخفيف في اللام، و"أمر الله": الإسلام ودعوته.

وقوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي نزلت في الجد بن قيس، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس: (هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟) ، وقال له وللناس: (اغزوا تغنموا بنات الأصفر)، فقال له الجد بن قيس: ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن، وذكر ابن إسحاق نحو هذا من القول الذي فيه فتور كثير وتخلف في الاعتذار، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر"، فقال الجد: ائذن ولا تفتنا بالنساء، وهذا منزع غير الأول إذا نظر، وهو أشبه بالنفاق والمحادة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الجد قال: "ولكني أعينك بمالي" وتأول بعض الناس قوله: "ولا تفتني" أي: لا تصعب علي حتى [ ص: 329 ] أحتاج إلى مواقعة معصيتك ومخالفتك، فسهل أنت علي ودعني غير مجلح، وهذا تأويل حسن واقف مع اللفظ، لكن تظاهر ما روي من ذكر بنات الأصفر، وذلك معترض في هذا التأويل، وقرأ عيسى بن عمر : "ولا تفتني" بضم التاء الأولى، قال أبو حاتم : هي لغة بني تميم، والأصفر هو الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وكان أصفر اللون فيقال للروم: بنو الأصفر، ومن ذلك قول أبي سفيان : "أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر"، ومنه قول الشاعر :


وبنو الأصفر الكرام ملوك الرو ... م لم يبق منهم مذكور



وذكر النقاش والمهدوي أن الأصفر رجل من الحبشة وقع ببلاد الروم، فتزوج وأنسل بنات لهن جمال، وهذا ضعيف، وقوله تعالى: ألا في الفتنة سقطوا أي في الذي أظهروا الفرار منه بما تبين لك وللمؤمنين من نفاقهم، وصح عندكم من كفرهم، وفسد ما بينكم وبينهم.

و سقطوا عبارة منبئة عن تمكن وقوعهم، ومنه: "على الخبير سقطت"، ثم قال: وإن جهنم لمحيطة بالكافرين وهذا توعد شديد لهم، أي: هي مآلهم ومصيرهم كيفما تقلبوا في الدنيا فإليها يرجعون، فهي محيطة بهذا الوجه.

وقوله تعالى: إن تصبك حسنة الآية، أخبر تعالى عن معتقدهم وما هم عليه، والحسنة هنا بحسب الغزوة هي الغنيمة والظفر، والمصيبة الهزم والخيبة، واللفظ عام -بعد ذلك- في كل محبوب ومكروه، ومعنى قوله تعالى: قد أخذنا أمرنا من قبل أي حزمنا نحن في تخلفنا ونظرنا لأنفسنا.

وقوله تعالى: قل لن يصيبنا الآية. أمر الله عز وجل نبيه في هذه الآية أن يرد على المنافقين ويفسد عليهم فرحهم بأن يعلمهم أن الشيء الذي يعتقدونه مصيبة ليس [ ص: 330 ] كما اعتقدوه، بل الجميع مما قد كتبه الله عز وجل للمؤمنين، فإما أن يكون ظفرا وسرورا في الدنيا وإما أن يكون ذخرا للآخرة، وقرأ طلحة بن مصرف : "قل هل يصيبنا" ذكره أبو حاتم ، وعند ابن جني : وقرأ طلحة بن مصرف ، وأعين قاضي الري: "قل لن يصيبنا" بشد الياء الثانية وكسرها ، كذا ذكره أبو الفتح وشرح ذلك، وهو وهم، والله أعلم.

قال أبو حاتم : قال عمرو بن شفيق: سمعت أعين قاضي الري يقرأ: "قل لن يصيبنا" النون مشددة، قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك لأن النون لا تدخل مع "لن" ولو كانت لطلحة بن مصرف لجازت لأنها مع "هل" ، قال الله عز وجل: هل يذهبن كيده ما يغيظ . وقوله: كتب الله يحتمل أن يريد ما قضى وقدر. ويحتمل أن يريد ما كتب الله لنا في قرآننا علينا من أنا إما أن نظفر بعدونا وإما أن نستشهد، فندخل الجنة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا الاحتمال يرجع إلى الأول، وقد ذكرهما الزجاج .

وقوله تعالى: وعلى الله فليتوكل المؤمنون معناه: مع سعيهم وجدهم إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا قول أكثر العلماء، وهو الصحيح، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة عمره، ومنه مظاهرته بين درعين، وتخبط الناس في معنى التوكل في الرزق، فالأظهر والأصح أن الرجل الذي يمكنه التحرف الحلال المحض الذي لا تدخله كراهية ينبغي له أن يمتثل منه ما يصونه ويحمله مثل الاحتطاب ونحوه، وقد قرن الله تبارك وتعالى الرزق بالتسبب، ومنه قوله تعالى: وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا .

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الطير: "تغدو خماصا ..." الحديث. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "قيدها وتوكل" ، وذهب بعض الناس إلى أن الرجل القوي الجلد إذا بلغ من التوكل [ ص: 331 ] إلى أن يدخل غارا أو بيتا يجهل أمره فيه، ويبقى في ذكر الله متوكلا يقول: إن كان بقي لي رزق فسيأتي الله به، وإن كان رزقي قد تم مت إن ذلك حسن بالغ عند قوم، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه كان في الحرم رجل ملازم يخرج من جيبه المرة بعد المرة بطاقة ينظر فيها ثم يصرفها ويبقى على حاله حتى مات في ذلك الموضع، فقرأت البطاقة فإذا فيها مكتوب واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه الطريقة لا يراها جل أهل العلم، بل ينبغي أن يسعى الرجل لقدر القوت سعيا جميلا لا يواقع فيه شبهة، فإن تعذر عليه ذلك وخرج إلى حد الاضطرار، فحينئذ إن تسامح في السؤال وأكل الميتة وما أمكنه من ذلك فهو له مباح، وإن صبر وتحتسب نفسه كان في أعلى رتبة عند قوم، ومن الناس من يرى أن فرضا عليه إبقاء رمقه.

وأما من يختار الإلقاء باليد -والسعي ممكن- فما كان هذا قط من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا العلماء، والله سبحانه الموفق للصواب، ومن حجج من يقول بالتوكل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي بلا حساب، وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطببون، وعلى ربهم يتوكلون" ، وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لعكاشة بن محصن أن [ ص: 332 ] يكون منهم، فقيل: ذلك لأنه عرف منه أنه لذلك، وقال للآخر: سبقك بها عكاشة ، وبردت الدعوة، فقيل: ذلك لأنه كان منافقا، وقيل: بل عرف منه أنه لا يصح لهذه الدرجة من التوكل.

التالي السابق


الخدمات العلمية