الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : وإذا كان لرجل باب من داره في دار رجل فأراد أن يمر في داره من ذلك الباب فمنعه صاحب الدار فصاحب الباب هو المدعي للطريق في دار الغير فعليه إثباته بالبينة ، ورب الدار هو المنكر فالقول قوله مع يمينه وبفتح الباب لا يستحق شيئا ; لأن فتح الباب رفع جزء من الحائط ، ولو رفع جميع حائطه لا يستحق به في ملك الغير شيئا فكذلك إذا فتح بابا ، وقد يكون فتح الباب لدخول الضوء والريح ، وقد يكون للاستئناس بالجار والتحدث معه فلا يكون ذلك دليلا على طريق له في الدار فإن أقام البينة أنه كان يمر في هذه الدار من هذا الباب لم يستحق بهذه الشهادة شيئا ; لأنهم شهدوا بيد كانت له في هذا الطريق فيما مضى وبهذه الشهادة لا يستحق المدعي شيئا .

( ألا ترى ) أنا لو عايناه مر فيه مرة لم يستحق به شيئا إلا أن يشهدوا أن له فيها طريقا ثابتا فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ، والطريق يجوز أن يكون مستحقا له في دار الجار في أصل القسمة أو أوصى له به فتقبل البينة على إثباته ، وإن لم يجدوا الطريق ، ولم يسموا ذرع العرض والطول بعد أن يقولوا : إن له طريقا في هذه الدار من هذا الباب إلى باب الدار فالشهادة مقبولة ، ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تأويله إذا شهدوا على إقرار الخصم بذلك فالجهالة لا تمنع صحة الإقرار فأما إذا [ ص: 94 ] شهدوا على الثبات لا تقبل شهادتهم لجهالة في المشهود به ، والأصح أنها تكون مقبولة ; لأن الجهالة إنما تمنع قبول الشهادة إذا تعذر على القاضي القضاء بها ، وهنا لا يتعذر فإن عرض الباب يجعل حكما فيكون عرض الطريق له بذلك القدر وطوله إلى باب الدار .

قال في بعض النسخ فإن لم يجدوا الطريق فذلك أحور للشهادة وفي بعضها قال : وإن سموا الطول ، والعرض فذلك أحور للشهادة ، وهذا ظاهر ; لأن الجهالة ترتفع به ، وأما اللفظ الأول فوجهه أنه لا حاجة إلى التحديد للعمل بالشهادة ، وربما يمتنع بذكرها العمل بها فإن من العلماء من يقدر الطريق بسبعة أذرع لحديث روي فيه فلو بين الشهود عرض الطريق ربما يذكرون أقل من ذلك أو أكثر والقاضي يذهب إلى ذلك المذهب فيرد شهادتهم ، وإذا أطلقوا عمل القاضي بشهادتهم .

فكان ترك التحديد أنفذ للشهادة ، ومعنى قوله أحور أي أنفذ ، وكذلك لو قالوا مات أبوه وترك هذا الطريق ميراثا ; لأنهم بينوا سبب ملكه وذلك لا يقدح في شهادتهم .

قال : ولو كان لرجل ميزاب في دار رجل فأراد أن يسيل فيه الماء فمنعه رب الدار فليس له أن يسيل فيه الماء حتى يقيم البينة أن له في هذه الدار مسيلا ; لأن الميزاب مركب في ملكه كالباب فلا يستحق به حقا في دار الغير إلا بحجة فإن أقام البينة أنهم قد رأوه يسيل فيه الماء لم يستحق بهذه الشهادة شيئا لما بينا أنهم شهدوا بيد كانت له فيما مضى ، وقد ذكر في كتاب الشرب أنهما لو تنازعا في نهر ، وأحدهما يسيل فيه ماءه فالقول قوله ; لأن يده قائمة في النهر باستعماله بتسييل الماء فيه .

فأما هنا ليست له يد قائمة في الدار بتسييل الماء في الميزاب في ، وقت سابق وبعض مشايخنا من المتأخرين رحمهم الله قالوا إذا كان مسيل الماء إلى جانب الميزاب ويعلم أنه قديم لم يحدث صاحب السطح فإنه يستحق تسييل الماء فيه من غير بينة ; لأن الظاهر شاهد له فإن الإنسان لا يجعل سطحه إلى جانب ميزاب إلا بعد أن يكون له حق تسييل الماء فيه بعمله .

أما إذا امتنع من تسييل الماء فيه يتعذر عليه تغييره إلى جانب آخر فإن شهد الشهود أن له مسيل ماء فيها من هذا الميزاب قبلت الشهادة ; لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم في حقه فإن شهدوا أنه لماء المطر فهو لماء المطر ، وإن شهدوا أنه لصب الوضوء فيه فهو لذلك ; لأنهم بينوا صفة ما شهدوا به من الحق ، وإن لم يفسروا شيئا من ذلك فالقول قول رب الدار في ذلك مع يمينه ; لأن أصل الحق ثابت بالشهادة ، ولا يثبت صفته فالقول قول صاحب الدار ; لأن ضرر ذلك يختلف في حقه فإن المسيل لماء المطر يكون ضرره في وقت خاص ; ولصب الوضوء فيه يكون الضرر في كل وقت فيكون [ ص: 95 ] القول في البيان قول صاحب الدار وعليه اليمين على جحوده دعوى صاحبه اعتبارا للصفة بالأصل ، وإن كانت الدار التي ادعى الطريق أو المسيل فيها بين الورثة فأقر بعضهم بالطريق والمسيل وجحد ذلك البعض لم يكن للمدعي أن يمر فيه ، ولا يسيل ماءه بقول بعضهم ; لأنه لا يتوصل إلى الانتفاع إلا بنصيب الجاحدين ، وإقرار المقر ليس بحجة في حقهم فلا يتمكن من التطرق أو بسيل الماء في نصيب المقر خاصة ; لأنه غير متميز عن نصيب شركائه ، وهذا بخلاف الإقرار بالملك فإن إقرار أحد الشركاء في نصيبه يجعل المقر أحق بنصيب المقر من حيث التصرف فيه ، والانتفاع به لتمكنه من ذلك في نصيب المقر على أن يكون قائما مقامه ، وقد ذكر في موضع آخر : فإن وقع ذلك الموضع في نصيب المقر تطرق فيه المقر له ، ويسيل ماءه ، وإن وقع في نصيب غيره يضرب المقر له بالطريق أو المسيل في نصيب المقر بقدر ذلك ويضرب المقر بحصته سوى الطريق والمسيل فيكون بينهما على ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ، وقال محمد رحمه الله إن كانت الورثة ثلاثة ضرب المقر بثلث المسيل ، وإنما أراد به إذا أقر له بملك الطريق أو المسيل ، وأصله فيما ذكر في كتاب الإقرار : دار مشتركة بين اثنين أقر أحدهما ببيت بعينه لإنسان وسنذكر ذلك في موضعه في كتاب الإقرار إن شاء الله تعالى .

قال : وإذا كان مسيل الماء في قناة فأراد أن يجعله ميزابا لم يكن له ذلك إلا برضاء أصل أهل الدار الذين عليهم المسيل ، وكذلك لو كان ميزابا فأراد أن يجعله قناة لم يكن له ذلك إلا برضاهم ; لأن في القناة الماء لا يفيض على وجه الأرض ، ولكنه مغور ، يسيل الماء في بطنه وفي الميزاب يسيل الماء على وجه الأرض فإذا أراد أن يجعل القناة ميزابا ففيه زيادة ضرر على أهل الدار بأن يفيض الماء في ساحة الدار ، وإذا أراد أن يجعل الميزاب قناة يحتاج إلى حفر ساحة الدار وفيه ضرر على صاحب الدار ، وإنما يثبت له من الحق قدرا معلوما فلا يكون له أن يلحق الضرر بهم في الزيادة إلا برضاهم ، وقيل : هذا إذا لم يكن ذلك الموضع مملوكا له ، وإنما له تسييل الماء فيه فأما إذا كان الموضع مملوكا له فله أن يجعل القناة ميزابا ، والميزاب قناة ; لأنه يتصرف في خالص ملكه فلا يمنعه منه ضرر يلحق جاره .

قال أرأيت لو جعل ميزابا أطول من ميزابه أو أعرض كان له ذلك ; لأنه إن جعله أطول كان انصباب الماء فيه من غير الموضع الذي كان حقه فيه ، وإن جعله أعرض ينصب الماء فيه أكثر مما هو حقه ، ولو أراد أن يسيل فيه ماء سطح آخر لم يكن له ذلك ; لأنه لم يكن لذلك السطح حق [ ص: 96 ] تسييل الماء في هذا الدار وفيه زيادة ضرر على صاحب الدار ، وكذلك لو أراد أن ينقل الميزاب عن موضعه ; لأنه ينصب الماء فيه في غير الموضع الذي هو حقه ، وكذلك لو أراد أن يرفعه أو يسفله ففي كل ذلك نوع ضرر على صاحب الدار سوى ما كان مستحقا لصاحب الميزاب فلا يملكه إلا برضاه .

قال : ولو أراد أهل الدار أن يبنوا حائطا ليسد مسيله لم يكن لهم ذلك ; لأنهم قصدوا منع حق مستحق للغير في دارهم ، وإن أرادوا أن يبنوا بناء يسيل ميزابه على سطحه كان لهم ذلك ; لأنه لا ضرر فيه على صاحب الميزاب إذ لا فرق في حقه بين أن ينصب ماء المطر في ساحة الدار أو على ظهر بيت يبنونه في ذلك الموضع ، وليس لهم أن يبنوا في ساحة الدار ما يمنع صاحب الطريق من التطرق فيه ، ولكنهم إذا أرادوا أن يبنوا الساحة ينبغي لهم أن يتركوا من الساحة بقدر الطريق ، ويثبتون ما سوى ذلك ; لأنه لا حق له إلا في موضع الطريق فإن ، وقعت المنازعة بينهم في عرض ما يتركون له من الطريق جعلوه قدر عرض باب الدار ; لأن ذلك متفق عليه فيرد عليهم المختلف فيه ; ولأنه لا منفعة لصاحب الطريق في الزيادة على ذلك فإنه لا يحمل مع نفسه في الطريق إلا ما يتمكن من إدخاله في باب الدار ، ويتمكن لذلك في طريق عرضه مثل عرض باب الدار ، والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية