الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أقر أنه غصب هذا العبد من هذا أو من هذا وكل واحد منهما يدعيه فإن اصطلحا على أخذه ; أخذه وإن لم يصطلحا استحلف كل واحد منهما أو لا ؟ نقول : فرق بين هذا والأول فقال هناك يقال له قر بأيهما شئت واحلف على الآخر وهنا لا يقال له قر لأيهما شئت واحلف للآخر ; لأن هناك الإقرار صحيح ملزم فإن المستحق معلوم إنما الجهالة في المستحق فيمكن إجباره على البيان لما صح إقراره وهنا إقرار غير صحيح ; لأن المقر له مجهول وجهالة المقر له تمنع صحة الإقرار ; لأن الحق لا يثبت للمجهول ; ولأن المغصوب عند الغصب قد بينه حاله على الغاصب أنه عبد أو أمة ولكن المغصوب منه لا يشتبه عليه عادة فلم يكن إقراره للمجهول حجة تامة في الاستحقاق حتى يجبر على البيان ولكنهما إن اصطلحا على أن يأخذه أمر بالتسليم إليهما ; لأن المغصوب جهالة ممن يجب عليه تسليمه إليه وقد يزال ذلك باصطلاحهما فإن أحدهما مالك والآخر نائب عنه وكما يؤمر الغاصب بالرد على نائبه ; ولأنه كان مقرا أنه لا حق له في العبد منهما فإن الحق فيه لا يعدوهما وإنما لم يصح إقراره في التزام التسليم إلى أحدهما بعينه فلا يجبر على البيان ; لأن ذلك غير ثابت بإقراره فإذا اصطلحا فقد ثبت بإقراره أن المستحق منهما يأمره بالتسليم إليه فإن لم يصطلحا استحلف لكل واحد منهما بعينه ; لأن كل واحد منهما يدعي الحق لنفسه عينا وهو لم يقر بذلك وإنما أقر لمنكر منهما

والمنكر في حق المعين كالمعدوم وللقاضي الخيار في البداية بالاستحلاف لأيهما شاء وقيل هذا بالاستحلاف لمن سبق بالدعوى وقيل يقرع بينهما تطمينا لقلوبهما فإن نكل عن اليمين أحدهما يأمره بالتسليم إليه ما لم يحلفه الآخر بخلاف ما إذا أقر لأحدهما بعينه فإنه يأمره بالتسليم إليه ; لأن الإقرار موجب الحق لنفسه فأما النكول لا يوجب الحق إلا بقضاء القاضي والقاضي لا يقضي إلا بعد النظر لكل قسم ومن حجة الآخر أن يقول القاضي إنما نكل له ; لأنك بدأت بالاستحلاف له ولو بدأت بالاستحلاف لي لكان ينكل لي وفي الإقرار لا يمكن الآخر أن يحتج بمثل هذا وقد زعم أن المقر له أحق بالعين منه فيأمره بالتسليم إليه فإن حلف لأحدهما ونكل للآخر قضى القاضي به للذي يحل له ; لأنه حق من حلف له وقد انتفى بيمينه ما لم يأت بحجة ولا حجة له ونكوله في حق الآخر قائم مقام إقراره فيأمره بالتسليم إليه وإن نكل لهما قضى القاضي بالعبد بينهما وبقيمته أيضا بينهما ; لأن بنكوله صار عقرا له وغصب من كل واحد منهما جميعه وما لو قدر إلا على النصف [ ص: 189 ] يرده على كل واحد منهما وليس أحدهما أولى به من الآخر فيلزمه رد نصف القيمة على كل واحد منهما اعتبارا للجزء بالكل إذا تعذر رده ولو حلف لهما لم يكن لهما عليه شيء لأن حق كل واحد منهما قد انتفى بيمينه إلى أن يجد الحجة فإن أراد أن يصطلحا بعد ذلك لم يكن لهما ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله الآخر وكان يقول أولا : لهما ذلك وهو قول محمد رحمه الله

وجه قوله الأول أن حق الأخذ عند الاصطلاح ثبت لهما بهذا الإقرار بدليل أنهما لو اصطلحا قبل الاستحلاف فإن لهما أن يأخذاه والحق الثابت بالإقرار لا يبطل باليمين والمعنى الذي فات لهما أن يأخذاه قبل الاستحلاف إذا اصطلحا على أن أحدهما مالك والآخر نائب عنه وهذا موجود بالاستحلاف ; ولأن الاستحلاف هو غير محل للإقرار ; لأن الإقرار كان لأحدهما بغير عينه والاستحلاف كان استحقاق كل واحد منهما بعينه فلا يتغير به حكم ذلك الإقرار فالقاضي يتيقن أنه صادق في يمينه أو كاذب ولا تأخير لليمين الكاذبة في إبطال الاستحقاق وجه قول أبي يوسف الآخر رحمه الله أن يمين المقر يبطل حق من حلف له كما لو حلف لأحدهما يبطل حقه ومزاحمته ثم التفقه فيه من وجهين : أحدهما أن أصل الإقرار وقع فاسدا لجهالة المقر له لما بينا أن الغصب يوجب رد العين والمستحق للرد عليه بهذا الإقرار غير معلوم أو كان الإقرار فاسدا ولكن أراد : منعه العباد برفع المفسد بالاصطلاح ممكن فإن أزال ذلك قبل تقرر الفساد صح الإقرار وأمر بالتسليم إليهما وإن تقرر الفساد بقضاء القاضي لا يمكن إزالته بعد ذلك برفع كالبيع الفاسد بخيار مجهول أو بعمل مجهول إذا تقررت صفة الفساد بالقضاء وهنا لما استحلفه القاضي لكل واحد منهما فقد حكم بفساد ذلك الإقرار فلا ينقلب صحيحا بعد ذلك باصطلاحهما .

( الثاني ) أن لكل واحد منهما لما طلب يمينه فقد عاملة المنكرين فصار راد الإقرار يرتد برد المقر له فلم يبق لهما حق الاصطلاح بعد ذلك بخلاف ما قبل الاستحلاف والثابت بالإقرار أحد الأمرين : إما الاصطلاح أو الاستحلاف فكما لو أقر على الاصطلاح كانا قابلين لإقراره فلا يبقى لهما حق الاستحلاف بعد ذلك فكذلك لو أقر على الاستحلاف كانا رادين لإقراره فلا يبقى لهما حق الاصطلاح بعد ذلك وقوله الاستحلاف في غير محل لإقراره قلنا محل الإقرار لا يعدوهما فإذا وجد الاستحلاف منهما فقد تيقن بوجوده ممن وقع الإقرار له فكان ذلك مبطلا لحق الإقرار .

التالي السابق


الخدمات العلمية