الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. قال دار في يد رجل ادعى رجل أنه اشتراها منه بمائة درهم ونقده الثمن وادعى آخر أنه اشتراها منه بمائتي درهم ونقده الثمن ولم توقت واحدة من البينتين وقتا فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصفه بنصف الثمن الذي بين شهوده وإن شاء ترك لأنهما تصادقا على أن الملك في الأصل كان لذي اليد وادعى كل واحد منهما التملك عليه بسبب الشراء وقد استويا في ذلك ولو استويا في إقامة البينة على الملك المطلق عليه قضي به بينهما نصفان فكذلك هنا فإن ( قيل ) قد تيقن القاضي بكذب أحد الفريقين ; لأن التعين على دار واحدة من رجلين من كل واحد منهما بكماله لا يتصور في وقت واحد فينبغي أن تبطل البينتان ( قلنا ) الشهود شهدوا بنفس البيع لا بصحته ولم يشهدوا بوقوع البيعين معا ويتصور بيعان في وقتين من واحد لعين واحدة من كل واحد منهما وكل واحد منهما اعتمد سببا أطلق له الشهادة فيجب العمل بها بحسب الإمكان ولأن البيعين يتصور وقوعهما في وقت واحد من وكيل المالك ويضاف عقد الوكيل إلى الموكل مجازا فلعل الوكيلين باعا معا - فيقضى لكل واحد من المشتريين بنصفها ويخير كل واحد منهما لتفرق الصفقة عليه فإنه أثبت عقده في الكل فلتبعض الملك حين لم يسلم له إلا النصف خيرهما فإن رضيا به فعلى كل واحد منهما من الثمن بقدر ما يسلم له من البيع وذلك النصف ، فإن رضي به أحدهما وأبى الآخر فليس للذي رضي به إلا نصفه ; لأن القاضي حين خيرهما فقد فسخ بيع كل واحد منهما في النصف حين قضى به لصاحبه فلا يعود بيع أحدهما بترك صاحبه المزاحمة معه إلا أن يكون ترك المزاحمة قبل أن يقضي القاضي بشيء فحينئذ تكون الدار للآخر بجميع الثمن فإنه أثبت شراءه في الكل ولم يفسخ القاضي بيعه في شيء وإنما كان القضاء له بالنصف لمزاحمة صاحبه معه فإذا زالت المزاحمة قضى له بالكل كالشفيعين إذا أسلم أحدهما قبل قضاء القاضي لهما يقضي للآخر بجميع الدار بخلاف ما لو كان تسليمه بعد القضاء فإنه لا يكون للآخر إلا نصف الدار .

ولو وقتت كل واحدة من البينتين وقتا قضيت بها لصاحب الوقت الأول ; لأنه أثبت شراءه في وقت لا ينازعه الآخر فيه فاستحقها من ذلك الوقت فتبين أن الآخر اشتراها من غير المالك فكان شراؤه باطلا وإن وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى قضيت بها لصاحب الوقت ; لأن شراءهما حادث فإنما يحال بحدوثه على أقرب الأوقات ما لم يثبت التاريخ فإنما يثبت شراء الذي لم توقت شهوده في الحال وقد أثبت الآخر شراءه سابقا فكان هو أولى وهذا بخلاف ما إذا ادعى الشراء من [ ص: 58 ] رجلين ووقته أحدهما ولم يوقت الآخر يقضي بها بينهما نصفين ; لأن كل واحد منهما هناك خصم عن تابعه في إثبات الملك له وتوقيت أحدهما لا يدل على سبق ملك بائعه فلعل ملك البائع الآخر أسبق فلهذا قضينا به بينهما فأما هنا اتفقا على الملك لبائع واحد فإنما حاجة كل واحد منهما إلى إثبات سبب الانتقال إليه لا إلى إثبات الملك للبائع وسبب الملك في حق الذي وقت شهوده أسبق فكان هو بالدار أحق ، وإن لم يوقت واحد منهما وكانت الدار في يد أحدهما وقد قبضها قضيت بها لذي اليد ; لأن قبضه صادر عن العقد الذي أثبته بالبينة حملا لفعله على الصحة فكان شراؤه متأكدا بالقبض فيترجح به لمعنيين أحدهما أن قبضه اقترن بعقد الآخر وهو صادر عن عقده فلا بد من أن يكون عقدا سابقا ولأنه يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على البائع فقط وذلك في بينته فأما الخارج يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على ذي اليد كما يحتاج إلى إثباته على البائع وليس في بينته ما يوجب الاستحقاق على ذي اليد لجواز أن يكون عقد ذي اليد سابقا وهذا بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من اثنين وأحدهما قابض فإن الخارج أولى هناك ; لأن كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه أولا ; فاجتمع في حق البائعين ببينة الخارج وبينة ذي اليد فكانت بينة الخارج أولى فأما هنا لا يحتاج إلى إثبات الملك للبائع بل هو ثابت بتصادقهما عليه إنما حاجتها إلى إثبات سبب الاستحقاق .

وسبب القابض أقوى فكان هو أولى فإن شهد شهود الخارج على وقت لم ينتفع به ; لأن تمكن القابض من القبض دليل سبق عقده وهو دليل معاين والتاريخ في حق الخارج مخبر به وليس الخبر كالمعاينة ثم يد ذي اليد ثابتة بيقين فلا ينقض إلا بيقين مثله وبذكر الوقت من شهود الخارج لا يزيل احتمال سبق عقد ذي اليد فلا ينقض قبضه إلا أن يشهدوا أن بيع الخارج كان قبل بيع ذي اليد فحينئذ يكون بيع الخارج أولى ; لأن تقدم العقد ثبت بنص من شهوده وتبين أن القابض اشترى من غير المالك وإن كان المدعيان أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من رجل آخر والدار في يد المدعى عليه قضي بها بينهما نصفين ; لأن كل واحد منهما ثبت الملك لبائعه أولا وقد استوت البينتان في إثبات الملك للبائع فيقضى بها بينهما نصفين ويتخير كل واحد من المشتريين لما بينا وإذا اختار الأخذ رجع كل واحد منهما على بائعه بنصف الثمن إن كان نقده إياه ; لأنه لم يسلم له إلا نصف المبيع ولو وقتا وقتين كان صاحب الوقت الأول أولى لإثباته الملك لبائعه في وقت لا ينازعه الآخر فيه ويرجع الآخر بالثمن على بائعه لاستحقاق المبيع من يده .

التالي السابق


الخدمات العلمية