الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. قال : وإذا لو ولدت أمة الرجل فادعاه آخر أنه ابنه من نكاح أو شبهة ، وأنكره المولى لم يصدق على ذلك العم والخال وسائر القرابات ; لأنه لا حق لبعضهم في مال البعض فهم كسائر الأجانب فإن ملكه يوما ، وقد ادعاه من جهة نكاح صحيح أو فاسد أو من جهة ملك يثبت نسبه منه ; لأنه عند الملك كالمجدد لذلك الإقرار فإن النسب لا يحتمل الإبطال بعد ثبوته والإقرار به قبل الملك يتوقف على وجود الملك .

وكذلك لو ادعى أنه ابنه ، ولم يذكر أنه تزوجها ; لأن مطلق إقراره محمول على سبب صحيح شرعا والأسباب المثبتة للفراش الذي يبنى عليها النسب كثيرة ، ولو ملك أمه معه أو دونه صارت أم ولد له ; لأنه أقر لها بأمية الولد حين أقر بالولد والنسب فإن إقراره بالنسب مثبت لها الفراش والفراش ثابت بالملك أو بالنكاح فاسدا كان أو صحيحا ، وذلك [ ص: 147 ] موجب أمية الولد لها إذا ملكها ، وإن ملك الولد أب المدعي وهو يجحد مقالة ابنه لم يثبت نسبه من الابن ، ولا يعتق ; لأنه لو كان في ملك الأب حين ادعاه الابن لم يثبت نسبه مع جحود الأب ، فإذا اعترض ملك الأب أولى أن لا يثبت نسبه بتلك الدعوة ، وإذا لم يثبت النسب لم يعتق على الأب ; لأن عتقه عليه باعتبار أنه ابن ابنه ، وذلك لا يكون إلا بعد ثبوت نسبه من الابن .

قال رجل تزوج امرأة على خادم فولدت في يد الزوج فادعى الزوج الولد ، وكذبته المرأة فإن كانت ولدت لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها ، وكان أصل الحبل عند الزوج فهو مصدق ; لأنا تيقنا أن العلوق حصل في ملكه فتكون دعوته دعوة استيلاد فبطل به تمليكها من المرأة صداقا ويضمن قيمتها للمرأة ; لأن التسمية بطلت بعد صحتها فوجب على الزوج القيمة كما لو استحقت ; وهذا لأنه تعذر تسليمها مع بقاء السبب الموجب للتسليم وهو النكاح ، وإن لم يكن أصل الحبل عنده لم يصدق ; لأن دعوة التحرير بمنزلة الإعتاق وهو لو أعتقها في هذه الحالة لم تصح منه ، وكذلك إن وضعته لأكثر من ستة أشهر ; لأنا لا نتيقن بحصول العلوق في ملكه فلا يصدقه على إبطال ملكها عن عين الخادم حين كذبته فإن طلقها قبل أن يدخل بها ، وقبل التسليم إليها ثبت نسب الولد منه ; لأن بالطلاق قبل الدخول ينتصف الأصل مع الزيادة وهو الخادم المقبوض فكان نصفها ونصف ، ولدها للزوج ، وذلك يكفي لصحة الدعوة فلهذا ثبت نسب الولد منه وصارت الجارية أم ولد له ويضمن نصف قيمتها للمرأة ; لأنه صار متملكا نصيبها عليها بما سبق منه من الدعوة وضمان التملك لا يعتمد وجود الصنع ، ولو لم يصنع في عينها شيئا بالطلاق قبل الدخول صار ضامنا لها نصف قيمة الجارية ويسعى الولد في نصف قيمته لها ; لأن نصف الولد مملوك لها ، وقد احتبس عنده فيجب عليه السعاية في نصف القيمة ، ولا ضمان على الزوج فيه ، وإن كان موسرا ; لأن صفة الدعوة حين ادعى لم يكن مفسدا عليها شيئا من الولد ، وإنما فسد نصيبها من الولد بعد الطلاق ، وكان ذلك سببا حكميا وهو ينصف الصداق بينهما وذلك أمر حكمي ، ولا يقال بأن سببه الطلاق ; لأن الطلاق يصرف منه في المنكوحة لقطع النكاح لا في الصداق فلا يكون موجبا للضمان عليه ، ثم إن كان الزوج أقر أنه وطئها قبل النكاح لم يضمن من العقر شيئا .

وإن أقر أن وطأه إياها كان بعد النكاح ضمن نصف العقر لها ، وإن لم يبين ذلك فالقول قوله فيه إلا إذا جاءت به لأكثر من سنتين منذ تزوجها فحينئذ يعلم أن وطأه إياها كان بعد النكاح فيلزمه نصف العقر لها ; لأن بالوطء قد لزم جميع العقر فإنه وطئ [ ص: 148 ] ملك الغير ، وقد سقط الحد عنه لشبهة فيجب العقر والعقر زيادة كالولد فينصف بالطلاق .

( قال ) وتأويل هذه المسألة إذا كان ادعى نسب الولد بنكاح أو شبهة أو لم يبين السبب فأما إذا بين أنه وطئها من غير شبهة النكاح لا يثبت النسب منه ; لأن الجارية في يده مملوكة له مضمونة عليه بالقيمة كالمغصوبة فيكون وطؤه إياها زنا غير مثبت النسب ، وإن كانت ، ولدت في يدي المرأة ، ثم طلقها قبل أن يدخل بها لم يرجع إليه من الخادم والولد سبي ; لأن الزيادة المنفصلة بعد القبض تمنع بنصف الأصل إلا أن تكون جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها فيكون ابنه بدعوته والجارية أم ولد له ويضمن المرأة نصف قيمتها لتيقننا بحصول العلوق في حال ملكه ، وذلك بمنزلة البينة تقوم .

وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر بعد القبض ، ولم يطلقها ، ولكن المرأة ماتت فورثها ضمن نصيب شركائه فيها ; لأنه صار متملكا لنصيب شركائه من الجارية حين صارت أم ولد له وضمان التملك لا يستدعي صنعا من جهته ، ويسعى الولد في حصتهم ; لأن نصيب الأب منه قد عتق بالدعوة السابقة فيحتبس نصيب الشركاء عند الولد فعليه السعاية .

( قال ) : وكذلك كل ميراث يقع في مثل هذا وحاصل هذه المسألة إن ملك جزءا من ولد بطريق الميراث من غيره فهو على وجهين إما أن يكون شريكه ذا رحم محرم من الولد أو أجنبيا منه ، وكل وجه على وجهين إما أن تكون دعوة الأب فيه قبل الملك أو بعده وكل وجه من ذلك على وجهين إما أن يصدقه الشريك أو يكذبه ، ثم الحاصل عند أبي حنيفة رحمه الله أنه إن كان الشريك ذا رحم محرم من الولد ، والدعوة قبل الملك أو بعده صدقه الشريك في ذلك أو كذبه فالولد حر كله ، ولا ضمان على الأب ، ولا سعاية على الولد ; لأنه إنما عتق نصيب الشريك عليه بقرابته فلا يكون ذلك موجبا للسعاية على الولد ويكون موجبا للضمان على الأب أما إذا انعدمت الدعوة على الملك فلأن تمام علة العتق بالملك الحاصل بالميراث لا صنع له فيه فإن تأخرت الدعوة عن الملك فإنما كان عتق نصيب الشريك محالا به على القرابة الثانية بينهما حكما فلا يكون موجبا للضمان على الأب .

وإن كان الشريك أجنبيا فإن كانت الدعوة قبل الملك وصدقه الشريك فيه أو كذبه أو كانت الدعوة بعد الملك ، وصدقه الشريك فيه فلا ضمان على الأب لانعدام صنع موجب للضمان إما بتقدم الدعوة على الملك الذي هو متمم لعلة العتق ، وإما التصديق من شريكه إياه في الدعوة فإنه حينئذ يلتحق بالابن المعروف ومن ملك ابنه المعروف بالميراث مع غيره لم يضمن لشريكه شيئا ، ولكن على الولد أن يسعى في [ ص: 149 ] نصيب الشريك ; لأنه احتبس نصيب الشريك عنده ، فتجب السعاية له ، ولو كانت الدعوة بعد الملك ، وكذبه شريكه فالحكم فيه كالحكم في عبد بين اثنين يعتقه أحدهما ; لأن نصيب الأب إنما يعتق عليه بعلة ذات ، وصفين الملك والقرابة فيحال به على آخر الوصفين وجودا وهو الدعوة هنا ، وذلك منه بمنزلة الإعتاق في حق الشريك حين كذبه فلهذا كان الحكم فيه كالحكم بين اثنين يعتقه أحدهما .

وأما في قول أبي يوسف ، ومحمد رحمهما الله فإن كانت الدعوة قبل الملك ، وكان الشريك ذا رحم محرم من الولد وصدقه في ذلك فلا ضمان عليه ، ولا سعاية على الولد ; لأن نصيب الشريك إنما يعتق عليه بقرابته حين صدقه في الدعوة ، وإن كانت الدعوة قبل الملك ، وكذبه شريكه أو كان الشريك أجنبيا والدعوة قبل الملك فصدقه أو كذبه أو كانت الدعوة بعد الملك ، وصدقه ففي هذه الوجوه الأربعة لا ضمان على الأب ; لأن تتميم علة العتق بالملك إذا كانت الدعوة قبله ، ولا صنع له في ذلك ، وإن كانت الدعوة بعده ، وصدقه فهو كالابن المعروف في حقه فلا يكون الأب ضامنا لشريكه في ظاهر الرواية عنهما ، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله يصير ضامنا لشريكه في الابن المعروف ، وإن ملكه بالإرث ; لأن ضمان العتق على هذه الرواية ضمان التملك بناء على أصلهما أن المعتق إذا كان موسرا يكون الولاء كله له فيكون بمنزلة ضمان الاستيلاد الواجب بسبب تملك الأم .

ولكن هذه الرواية غير صحيحة فإنه لا خلاف أنه لا يجب هذا الضمان عند العسر وضمان التملك لا يختلف باليسار والإعسار ، ولكن العبد يسعى في قيمة نصيب شريكه لإحصاء منه عنده فإن القرابة بينه وبين الولد لم تثبت عند تكذيبه في حقه ، وإن كانت الدعوة بعد الملك ، وكذبه الشريك وهو ذو رحم محرم من الأب أو أجنبي فالجواب في الفصلين واحد عندهما ، والحكم فيه كالحكم في عبد بين اثنين يعتقه أحدهما لما بينا أن القرابة لا تثبت في حق الشريك مع تكذيبه إياه فذا الرحم المحرم ، والأجنبي فيه سواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية