الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( باب إقرار المفاوضة بالدين ) . قال رحمه الله وإذا أقر أحد المتفاوضين بدين في مرض موته من تجارتهما يوحد شريكه به في الحال وفيه طريقان لنا : أحدهما أن المتفاوضين في حقوق التجارة صارا بمنزلة شخص واحد ومباشرة أحدهما سبب وجوب الدين كمباشرتهما والإقرار من باب التجارة فوجوده من أحدهما كوجوده منهما والأصح أن يقول وجوب الدين بمباشرة السبب على من باشره ولكن الشريك مطالب به بسبب التحمل الثابت بمقتضى صدر المفاوضة بينهما ; لأن عقد المفاوضة يقتضي الوكالة العامة والكفالة العامة لكل واحد منهما عن صاحبه في ديون التجارة فإنها تقتضي المساواة بهذا فالمفاوض المقر وإن كان مريضا فقد وجب عليه الدين بإقراره حتى إذا لم يكن عليه دين في الصحة كان مطالبا به في الحال وإن كان عليه دين في الصحة فحق غريم الصحة مقدم ولكن حق المقر له في المرض ثابت أيضا حتى إذا فرغت التركة من حق غريم الصحة صرف المقر له في المرض وإذا ثبت الوجوب في حق المقر صار الشريك مطالبا به بحكم الكفالة وتأخره في حق المقر لمكان دين الصحة لا يوجب التأخير في الشريك كالعبد المحجور يقر على نفسه بدين ويكفل البيان عنه ، يؤاخذ الكفيل في الحال به وإن كان مؤخرا في حق الأصل إلى ما بعد العتق وهذا لا تأجيل في أصل المال إنما التأخير لضرورة انعدام محل القضاء ولا ضرورة في حق الكفيل فيكون مطالبا في الحال بإيفائه ولو كان [ ص: 195 ] المفاوض المريض أقر لوارثه بدين لم يلزمه شريكه .

وبهذا تبين أن الصحيح هو الطريق الثاني دون الأول فإنه لو جعل إقرار أحدهما لصار الشريك الآخر مطالبا بالمال هنا ولكن إقرار المريض لوارثه باطل فلم يجب به المال في ذمة المقر والوجوب على الشريك بحكم الكفالة فإذا لم يكن المال واجبا على الأصيل لا يجب على الكفيل خلاف الأول فإن إقراره للأجنبي صحيح وإن كان مؤخرا عن حق غرماء الصحة فوجب به المال على الأصيل وصار الكفيل مطالبا به بحكم الكفالة وكذلك لو كفل لوارثه بشيء ; لأن كفالة المريض لوارثه باطلة غير موجبة المال عليه فأما إذا كفل للأجنبي فعند أبي حنيفة رحمه الله يؤاخذ به شريكه سواء كفل بأمر الأصيل أو بغير أمره وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يؤاخذ الشريك به وكذلك إن أقر أحد المتفاوضين بكفالة في صحته أو مرضه فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يؤاخذ به شريكه وعندهما لا يؤاخذ بشيء من ذلك حجتهما أن دين الكفالة ليس من دين التجارة ; لأن سببه لا ينزع ما هو تبرع .

( ألا ترى ) أنه لو حصل من المريض كان معتبرا من الثلث ولو حصل من العبد المأذون والمكاتب لم يكن صحيحا وما وجب على أحد المتفاوضين لا بجهة التجارة لا يكون شريكه مطالبا به كما يجب من مهر امرأته وأرش الجناية بجنايته وكلامهما يتضح في الكفالة بغير الأصل فإنه تبرع محض حتى لا يستوجب الكفيل الرجوع على الأصيل عند الأداء ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان : الأول أن هذا الدين وجب بما هو من متضمنات عقد المفاوضة فيكون الشريك مطالبا به كالواجب بطريق الوكالة إذا توكل أحدهما عن الغير بالشراء وبيانه فيما قلنا أن عقد المفاوضة يقتضي الوكالة العامة والكفالة العامة وبهذا تبين أنه من جنس التجارة ; لأن عقد المفاوضة يتضمن ما هو من جنس التجارة .

الثاني أن في الكفالة معنى البيوع في الابتداء ولكنه مفاوضة أيهما خصوصا في الكفالة بالأمر فإنه يرجع بما يؤدي إلى الأصيل ففي حق العبد المأذون والمكاتب والمريض اعتبرنا معنى التبرع فيه في الابتداء فلم يكن صحيحا وفي حق المفاوض اعتبرنا معنى المفاوضة في الانتهاء ; لأنه صحيح في حق من باشر سببه فإذا صح انقلبت مفاوضة فعند صيرورة الشريك الآخر مطالبا له في الحال وتأخر في حق المريض عن حق غرماء الصحة ; لأن إقرار الشريك عليه لا يكون العبد من إقراره بنفسه وهو لو أقر بنفسه تأخر عن حق غرماء الصحة فكذلك ما لزم بإقرار شريكه أو يجعل هذا كإقرارهما جميعا فإن ( قيل ) كان ينبغي أن يكون هذا في حق المريض من ثلث ماله ; لأن الوجوب عليه كان لسبب [ ص: 196 ] الكفالة عن شريكه وكفالة المريض معتبرة من ثلثه ( قلنا ) هذا إذ لو كانت مباشرة الكفالة في المرض وهنا الكفالة بمقتضى عقد المفاوضة فإنما كان في حال الصحة فالوجود وإن حصل في حالة المرض لما كان سببه موجودا في حال الصحة فالواجب كان معتبرا من جميع ماله فإن ( قيل ) إذا كان سببه في حال الصحة ينبغي أن لا يتأخر عن حق غرماء الصحة

( قلنا ) وجوب الدين عليه بذلك السبب إنما حصل في المرض فكان ذلك مزيد المرض لهذا المريض ; ولأن إقرار الغير عليه لا يكون أبعد من إقراره على نفسه ولو أقر الصحيح لوارث المريض بدين لزم الصحيح كله دون المريض ; لأن إقرار الصحيح في حق المريض كإقراره بنفسه وإقراره لوارثه باطل فكذلك إقرار الصحيح في حقه وليس من ضرورة امتناع وجوب المال على الكفيل أن لا يجب على الأصيل فلهذا وجب المال على الصحيح فإن ( قيل ) إقرار المريض لوارثه إنما لا يصح لتهمة الإيثار وهو غير موجود في حق إقرار شريكه ( قلنا ) ليس كذلك بل يتمكن تهمة المواضعة هنا من حيث إنه لما علم أن إقراره لوارثه بنفسه لا يصح لشريكه لتقربه له ثم يستوفى من مال المريض فليمكن هذه التهمة ; ( قلنا ) لا يصح الإقرار في حق المريض ولا تهمة في ما يقر له الشريك على نفسه في حقه فكان هو مطالبا بالمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية