الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) [ آل عمران : 187 ] وقريب منهما قوله تعالى : ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ) [ البقرة : 174 ] فهذه الآية كلها موجبة لإظهار علوم الدين تنبيها للناس ، وزاجرة عن كتمانها ، ونظيرها في بيان العلم وإن لم يكن فيها ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) [ التوبة : 122 ] وروى حجاج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار " .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ما أنزلنا من البينات ) فالمراد كل ما أنزله على الأنبياء كتابا ووحيا دون أدلة العقول ، وقوله تعالى : ( والهدى ) يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ؛ لأنا بينا في تفسير قوله تعالى : ( هدى للمتقين ) [ البقرة : 3 ] أن الهدى عبارة عن الدلائل فيعم الكل ، فإن قيل : فقد قال : ( والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ) فعاد إلى الوجه الأول قلنا : الأول هو التنزيل ، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الكتاب لما دل على أن خبر الواحد والإجماع والقياس حجة ، فكل ما يدل عليه أحد هذه الأمور فقد دل عليه الكتاب ، فكان كتمانه داخلا تحت الآية ، فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية وجمع بين الأمرين في الوعيد ، فهذه الآية تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجا إليها ، ثم تركها أو كتم شيئا من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه فقد لحقه الوعيد العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين ، وهذا لأنه إذا أظهر البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوما ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 149 ] المسألة الخامسة : من الناس من يحتج بهذه الآيات في قبول خبر الواحد فقال : دلت هذه الآيات على أن إظهار هذه الأحكام واجب ، ولو لم يجب العمل بها لم يكن إظهارها واجبا ، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية : ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ) [ البقرة : 160 ] فحكم بوقوع البيان بخبرهم ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهيا عن الكتمان ، ومأمورا بالبيان ؛ ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجبا للعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية