الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1531 [ ص: 254 ] وقال محمد بن بكر: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء أنه قال: ومن يتقي شيئا من البيت وكان معاوية يستلم الأركان فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يستلم هذان الركنان فقال: ليس شيء من البيت مهجورا، وكان ابن الزبير رضي الله عنهما يستلمهن كلهن.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (لا يستلم هذان الركنان) أي الركنان الشاميان، فإذا لم يستلما ينحصر الاستلام على الركنين اليمانيين، وهذا الحديث معلق، علقه عن محمد بن بكر البرساني بضم الباء الموحدة وسكون الراء وبالسين المهملة وبالنون، نسبة إلى برسان حي من الأزد، وقد تقدم في باب تضييع الصلاة، وهو يروي عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد أبي الشعثاء مؤنث الأشعث، وقد تقدم في باب الغسل بالصاع، وقد وصل هذا التعليق الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر والثوري (و) حدثنا روح حدثنا الثوري عن ابن خيثم: "عن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال له عبد الله بن عباس: لا يستلم هذان الركنان" (ح) قال: وحدثنا روح حدثنا سعيد وعبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أبي الطفيل (و) حدثنا مروان بن شجاع حدثني خصيف عن مجاهد عن ابن عباس، فذكره.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم من حديث عمرو بن الحارث عن قتادة دون قصة معاوية بلفظ: "لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم غير الركنين اليمانيين" ووصله الترمذي والحاكم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الطفيل، قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر واليماني، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا. وروى أحمد أيضا من طريق شعبة عن قتادة: "عن أبي الطفيل قال: حج معاوية وابن عباس فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها فقال معاوية : إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور ". قال عبد الله بن أحمد في العلل: سألت أبي عنه فقال: قلبه شعبة، يقول: الناس يخالفونني في هذا، ولكنه سمعته من قتادة هكذا، انتهى. وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة على الصواب، أخرجه أحمد أيضا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (ومن يتقي شيئا) كلمة "من" استفهامية على سبيل الإنكار فلذلك لم يحذف الياء من "يتقي" ويجوز أن تكون شرطية على رواية من يروي: (فكان معاوية) بالفاء وذلك على لغة من لا يوجب الجزم فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وكان معاوية يستلم الأركان) أي الأركان الأربعة، أي اليمانيان والشاميان، والركن الأسود فيه فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، واليماني فيه الفضيلة الثانية فقط، وأما الشاميان فليس شيء من الفضيلتين؛ فلذا اختص الأسود بشيئين الاستلام والقبلة، وأما اليماني فيستلم ولا يقبل؛ لأن فيه فضيلة واحدة، وأما الآخران فلا يستلمان ولا يقبلان.

                                                                                                                                                                                  وقال التيمي: الركنان اللذان يليان الحجر ليسا بركنين أصليين؛ لأن وراء ذلك الحجر، وهو من البيت، فلو رفع جدار الحجر وضم إلى الكعبة في البناء كما كان على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكان يستلمان، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إنه) أي إن الشأن. قوله: (لا يستلم) على صيغة المجهول الغائب، هكذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الحموي والمستملي: (لا نستلم هذين الركنين) بالنون في أوله على صيغة المتكلم، وقوله: (هذين الركنين) بالنصب مفعوله.

                                                                                                                                                                                  قوله: (مهجورا) بالنصب، ويجوز رفعه على أن يكون صفة لقوله "شيء".

                                                                                                                                                                                  قوله: (وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن) أي: وكان عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما يستلم الأركان كلها، وهذا وصله ابن أبي شيبة من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير أنه رأى أباه عبد الله بن الزبير يستلم الأركان كلها، وقال: إنه ليس شيء منه مهجورا، وفي مسند الشافعي رحمه الله: أنبأنا موسى الربذي، عن محمد بن كعب، أن ابن عباس كان يمسح على الركن اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: لا ينبغي لبيت الله أن يكون شيء منه مهجورا، وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

                                                                                                                                                                                  وروى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي ليلى عن عطاء عن يعلى بن أمية، ورآه عمر رضي الله تعالى عنه يستلم الأركان كلها: يا يعلى ما نفعل [ ص: 255 ] قال: أستلمها كلها؛ لأنه ليس شيء من البيت يهجر، فقال عمر: أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم منها إلا الحجر، قال يعلى: بلى، قال: فما لك أسوة؟ قال: بلى.

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه:

                                                                                                                                                                                  يستفاد من هذا الحديث مذهبان:

                                                                                                                                                                                  الأول: من يستلم الأركان كلها وهو مذهب معاوية وعبد الله بن الزبير وجابر بن زيد وعروة بن الزبير وسويد بن غفلة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر: وهو مذهب جابر بن عبد الله والحسن والحسين وأنس بن مالك.

                                                                                                                                                                                  الثاني: مذهب ابن عباس وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم ومذهبهما أنه لا يستلم إلا الركن الأسود والركن اليماني، وهو مذهب أصحابنا الحنفية أيضا؛ لأنهما على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر: قال أكثر أهل العلم: لا يسن استلام الركنين الشاميين.

                                                                                                                                                                                  وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير، عن حجاج، عن عطاء قال: أدركت شيخنا ابن عباس وجابرا وأبا هريرة وعبيد بن عمير لا يستلمون غيرهما من الأركان، يعني الأسود واليماني، قال: وحدثنا عبيد الله عن عثمان بن أبي الأسود عن مجاهد قال: الركنان اللذان يليان الحجر لا يستلمان.

                                                                                                                                                                                  وفي كتاب الحميدي من حديث النخعي عن عائشة مرفوعا: ما مررت بالركن اليماني قط إلا وجدت جبريل عليه السلام قائما عنده. ومن حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس مثله بزيادة قوله: يا محمد ادن فاستلم. وفي حديث أبي هريرة: وكل الله به سبعين ألف ملك. وفي حديث ابن عمر مرفوعا: مسحهما كفارة للخطايا . رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، والله أعلم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية