الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1479 [ ص: 179 ] 146 - وقال أبو عمر: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت، ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم، ثم يمسك حتى إذا جاء ذا طوى بات به حتى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتسل، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "فإذا استوت به استقبل القبلة" وأبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد البصري، وعبد الوارث بن سعيد، وأيوب السختياني، والكل قد ذكروا غير مرة، وهذا تعليق وصله أبو نعيم في (المستخرج) من طريق عباس الدوري عن أبي معمر، وقال: ذكره البخاري بلا رواية. ورواه مسلم في (صحيحه) عن أبي الربيع عن حماد، عن أيوب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إذا صلى بالغداة) أي: إذا صلى الصبح بوقت الغداة، وفي رواية الكشميهني: "إذا صلى الغداة" أي: صلاة الغداة، وهي الصبح.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فرحلت) بناء على المجهول بالتخفيف.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قائما) نصب على الحال، أي: منتصبا غير مائل على ناقته.

                                                                                                                                                                                  وقيل: وصفه بالقيام لقيام راحلته.

                                                                                                                                                                                  وقيل: روي بلفظ: "فإذا استوت به راحلته قائمة".

                                                                                                                                                                                  وقال الداودي: أي: استقبل القبلة قائما في الصلاة، وفي السياق تقديم وتأخير، والتقدير: أمر براحلته فرحلت، ثم استقبل القبلة قائما، أي: فصلى، ثم ركب، ورد بأنه تعسف، فلا حاجة إلى هذا التقدير؛ لعدم ذكر صلاة الإحرام فيه، والاستقبال إنما وقع بعد الركوب.

                                                                                                                                                                                  وقد رواه ابن ماجه، وأبو عوانة في (صحيحه) من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع بلفظ "كان إذا أدخل رجله في الغرز فاستوت به ناقته قائمة أهل".

                                                                                                                                                                                  قوله: (ثم يمسك) أي: عن التلبية، وليس المراد بالإمساك عن التلبية تركها أصلا، وإنما المراد التشاغل بغيرها من الطواف وغيره، وقد روي أن ابن عمر كان لا يلبي في طوافه، كما رواه ابن خزيمة في (صحيحه) من طريق عطاء، قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يدع التلبية إذا دخل الحرم، ويراجعها بعدما يقضي طوافه بين الصفا والمروة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ثم يلبي حتى يبلغ الحرم) أي: بعدما ركب راحلته يلبي، ولا يقطعها حتى يبلغ الحرم.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: (فإن قلت): وقت الإمساك هو صبيحة يوم العيد في منى لا بلوغ الحرم.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ليس الغرض منه هاهنا بيان وقت على الخصوص، فلهذا أجمل، أو أراد بالحرم منى، أو كان ذلك عند التمتع.

                                                                                                                                                                                  واعترض عليه بأنه يشكل عليه قوله في رواية إسماعيل بن علية (إذا دخل أدنى الحرم).

                                                                                                                                                                                  (قلت): إذا أريد بالحرم ظاهره لا يبقى الإشكال.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: المراد بالإمساك ترك تكرار التلبية لا تركها أصلا.

                                                                                                                                                                                  (قلت): مذهب ابن عمر أنه كان يتركها إذا دخل الحرم، ولا يفهم من ظاهر الكلام إلا تركها لا ترك تكرارها; لأن بين تركها وبين ترك تكرارها فرقا، وتارك تكرارها لا يسمى تاركا للتلبية.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ثم يمسك حتى إذا جاء" هي غاية لقوله استقبل.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: أو يكون المراد بالحرم هو المتبادر إلى الذهن، وهو أول جزء منه، يعني: يمسك فيما بين أوله وذي طوى، فحتى على هذا الوجه غاية لقوله يمسك.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ذا طوى) منصوب; لأنه مفعول جاء، و"ذي طوى" بضم الطاء، وفتحها وكسرها وقيدها الأصيلي بكسرها وبتخفيف الواو، واد معروف بقرب مكة.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: هو موضع عند باب مكة بأسفلها في صوب طريق العمرة المعتادة، ومسجد عائشة، ويعرف اليوم بآبار الزاهد، يصرف ولا يصرف.

                                                                                                                                                                                  وقال أيضا: إنه مقصور منون، وفي (التوضيح) هو ربض من أرباض مكة، وطاؤه مثلثة مع الصرف وعدمه، والمد أيضا.

                                                                                                                                                                                  وقال السهيلي: واد بمكة في أسفلها، وذو طواء ممدودا، وموضع بطريق الطائف.

                                                                                                                                                                                  وقيل: واد.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: ويروى "حتى إذا حاذى طوى" من المحاذاة، وبحذف كلمة ذي، والأول هو الصحيح; لأن اسم الموضع "ذو طوى" لا "طوى" وفي كتاب (الأذواء) ذو طوى موضع بظاهر مكة به بئار، يستحب لمن يدخل مكة أن يغتسل منها.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بات به) أي: بذي طوى، أي: فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حتى يصبح) أي: إلى أن يدخل في الصباح.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فإذا صلى الغداة) أي: صلاة الغداة، وهي الصبح.

                                                                                                                                                                                  قوله: (اغتسل) جواب إذا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وزعم) أي: قال، ويطلق الزعم على القول الصحيح، وسيأتي في باب الاغتسال عند دخول مكة، فقال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

                                                                                                                                                                                  وروى الحاكم [ ص: 180 ] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اغتسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم لبس ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم قعد على بعيره، فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج . وقال: صحيح الإسناد.

                                                                                                                                                                                  (ومما يستفاد من الحديث):

                                                                                                                                                                                  استقبال القبلة عند الإهلال لاستقبال دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام بمكة، فلذلك يلبي الداعي أبدا بعد أن يستقبل بالوجه; لأنه لا يصلح أن يولي المجيب ظهره من يدعوه، ثم يلبيه، بل يستقبله في موضعه الذي دعي منه.

                                                                                                                                                                                  وفيه استحباب الإحرام عقيب الصلاة، وفي (التلويح) لا خلاف أن المبيت بذي طوى ودخول مكة نهارا ليس من المناسك، لكن إن فعله اقتداء بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتبعا لآثاره كان ثوابه في ذلك جزيلا، وفي (شرح المهذب) لمن هي طريقه مستحب.

                                                                                                                                                                                  ودخول مكة نهارا أفضل من الليل، وهو الصحيح عند الأكثرين من الشافعية.

                                                                                                                                                                                  وقال بعض الشافعية: هما سواء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في عمرة الجعرانة ليلا.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هو المذكور في (الهداية) عن أبي حنيفة.

                                                                                                                                                                                  وفيه الاغتسال.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: الاغتسال المذكور سنة، قال: فإن عجز عنه تيمم، وتكون نيته في ذلك غسل دخول مكة.

                                                                                                                                                                                  وقال في (مناسك الكرماني) هذا الغسل مستحب لكل أحد حتى الحائض، والنفساء، والصبي.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن حزم: لا يلزم الغسل فرضا في الحج إلا المرأة تهل بعمرة تريد التمتع، فتحيض قبل الطواف بالبيت، فهذه تغتسل ولا بد، والمرأة تلد قبل أن تهل بالعمرة أو بالقران، ففرض عليها أن تغتسل وتهل.

                                                                                                                                                                                  وفي (الاستذكار) ما أعلم أحدا من المتقدمين أوجب الاغتسال عند الإحرام بالعمرة أو الحج إلا الحسن بن أبي الحسن، وقد روي عن عكرمة إيجابه كقول أهل الظاهر، وروي عنه أن الوضوء يكفي منه.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر: هو سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه، لا يرخصون في تركه إلا من عذر.

                                                                                                                                                                                  وعن عبد الملك: هو لازم، إلا أنه ليس في تركه ناسيا ولا عامدا دم ولا فدية.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن خوازمند: هو عند مالك أوكد من غسل الجمعة.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري: يجزيه الوضوء، وهو قول إبراهيم.

                                                                                                                                                                                  وفي (سنن سعيد بن منصور: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: ذكر عن إبراهيم: إذا قدم الحاج أمسك عن التلبية ما دام يطوف بالبيت، فقال إبراهيم: لا، بل يلبي قبل الطواف، وفي الطواف، وبعد الطواف، ولا يقطعها حتى يرمي الجمرة، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، إلا أن أبا حنيفة والشافعي قالا: يقطع التلبية مع أول حصاة يرميها في الجمرة، وقد استقصينا الكلام فيه فيما مضى.

                                                                                                                                                                                  وقال قوم: يقطع المعتمر التلبية إذا دخل الحرم.

                                                                                                                                                                                  وقال آخرون: لا يقطعها حتى يرى بيوت مكة، وقالت طائفة: حتى يدخل بيوت مكة.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو حنيفة: لا يقطعها حتى يستلم الحجر؛ لما رواه أحمد عن هشيم، حدثنا حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر".

                                                                                                                                                                                  وقال الليث: إذا بلغ الكعبة قطع التلبية.

                                                                                                                                                                                  وقال الشافعي: لا يقطعها حتى يفتتح الطواف.

                                                                                                                                                                                  وقال مالك: من أحرم من الميقات قطع التلبية إذا دخل أول الحرم، فإن أحرم من الجعرانة، أو من التنعيم قطعها إذا دخل بيوت مكة، أو إذا دخل المسجد، وروي عن ابن عباس "لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الركن، وكان ابن عمر يقطعها إذا رأى بيوت مكة".



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية