الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1543 211 - حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، قال يونس: قال ابن شهاب: حدثني حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. [ ص: 265 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 265 ] مطابقته للترجمة ظاهرة، ويحيى بن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المضري، والليث هو ابن سعيد المصري، ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وحميد -بضم الحاء- ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، وقطعة وافرة من الحديث مضت في باب ما يستر من العورة في كتاب الصلاة، فإنه أخرجه هناك عن إسحاق بن إبراهيم، عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي ابن شهاب، عن معن، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "بعثه" أي بعث أبا هريرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "في الحجة التي أمره عليها" بتشديد الميم، أي جعله أميرا عليها.

                                                                                                                                                                                  وقال التيمي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه سنة تسع من الهجرة ليحج بالناس، وكان معه أبو هريرة.

                                                                                                                                                                                  وقال السهيلي: كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك أراد الحج، فذكر مخالطة المشركين للناس في حجهم وتلبيتهم بالشرك وطوافهم عراة بالبيت، وكانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا كما ولدوا بغير الثياب التي أذنبوا فيها وظلموا، فأمسك صلى الله عليه وسلم عن الحج في ذلك العام، وبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه بسورة "براءة" لينبذ إلى كل ذي عهد عهده من المشركين إلا بعض بني بكر الذين كان لهم عهد إلى أجل خاص، ثم أردف بعلي رضي الله تعالى عنه فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل أنزل في قرآن؟ قال: لا، ولكن أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي، قال أبو هريرة: فأمرني علي رضي الله تعالى عنه أن أطوف في المنازل من منى بـ"براءة" فكنت أصيح حتى صحل حلقي، فقيل له: بم كنت تنادي؟ قال: بأربع، أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد فله أجل أربعة أشهر ثم لا عهد له، وكان المشركون إذا سمعوا النداء بـ"براءة" يقولون لعلي رضي الله تعالى عنه: سترون بعد الأربعة أشهر بأنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب، ثم إن الناس في تلك المدة رغبوا في الإسلام حتى دخلوا فيه طوعا وكرها.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عبد البر: لما خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الحج نزل صدر "براءة" بعده، فقيل: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: إنه لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليا رضي الله تعالى عنه فأرسله، فخرج راكبا على ناقة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر بالعرج، فقال له أبو بكر: أستعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج؟ قال: لا; ولكن بعثني بقراءة "براءة" على الناس.

                                                                                                                                                                                  قالوا: والحكمة في إعطاء "براءة" لعلي رضي الله تعالى عنه لأن فيها نقض العهد، وكانت سيرة العرب أنه لا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إن في سورة "براءة" فضيلة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وهي (ثاني اثنين) فأراد صلى الله عليه وسلم أن يكون يقرؤها غيره.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يوم النحر" ظرف لقوله: "بعثه".

                                                                                                                                                                                  قوله: "في رهط" أي في جملة رهط، والرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل إلى الأربعين، ولا يكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، ويجمع على أرهط وأرهاط، وأراهط جمع الجمع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يؤذن" الضمير فيه راجع إلى الرهط باعتبار اللفظ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة على الالتفات، وهو من الإيذان وهو الإعلام.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ألا لا يحج" كلمة ألا بفتح الهمزة واللام المخففة تأتي على أوجه، ولكن هنا للتنبيه، فتدل على تحقق ما بعدها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لا يحج" نفي، وفاعله قوله: "مشرك" ويروى "أن لا يحج" بالنصب بكلمة "أن" وفي رواية للبخاري في التفسير "أن لا يحجن" بنون التأكيد، وفي بعض النسخ "ألا" بفتح الهمزة "يحج" وبتشديد اللام، وعليه تكلم الكرماني فقال: إن أصله أن لا يحج وأن مخففة من الثقيلة، أي أن الشأن.

                                                                                                                                                                                  قلت: تقديره أنه لا يحج، فيكون لا يحج مرفوعا على كل حال.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولا يطوف" بالرفع عطفا على لا يحج، وعلى رواية "أن لا يحج" يكون بالنصب عطفا عليه، وقوله "عريان" فاعل "لا يطوف" وفي مسلم عن هشام، عن أبيه عروة قال: كانت العرب يطوفون عراة إلا أن يعطيهم الحمس ثيابا، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وروى مسلم والنسائي من رواية مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة وتقول:


                                                                                                                                                                                  اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله



                                                                                                                                                                                  فنزلت: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وذكر الأزرقي من حديث ابن عباس قال: كانت قبائل العرب من بني عامر وغيرهم يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار والنساء بالليل، فإذا بلغ أحدهم باب المسجد قال للحمس: من يعير معوزا، فإن أعاره [ ص: 266 ] أحمسي ثوبه طاف فيه، وإلا ألقى ثيابه بباب المسجد، ثم طاف سبعا عريانا، وكانوا يقولون: لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، وكان بعض نسائهم تتخذ سيورا تعلقها في حقويها وتستر بها، وفيه تقول العامرية:


                                                                                                                                                                                  اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا نحله



                                                                                                                                                                                  ثم من طاف منهم في ثيابه لم يحل له أن يلبسها أبدا، ولا ينتفع بها، وللرياشي زيادة في البيت المذكور:


                                                                                                                                                                                  كم من لبيب لبه يضله وناظر ينظر ما يمله
                                                                                                                                                                                  جهم من الجثم عظيم ظله

                                                                                                                                                                                  قلت: كانت هذه المرأة ضباعة بنت عامر، وكانت تحت عبد الله بن جدعان، وطافت بالبيت عريانة، وهي واضعة يديها على فخذيها، وقريش أحدقت بها وهي تقول هذه الأبيات، وطافت بالبيت الحرام أسبوعا، وفي تاريخ ابن عساكر: كانت تغطي جسدها بشعرها، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئا كثير العظم خلفها، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة تقول: من يعيرني تطوافا، يعني ثوبا تطوف به تجعله على فرجها وتقول:


                                                                                                                                                                                  اليوم يبدو

                                                                                                                                                                                  إلى آخره.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): فيه حكمان، الأول: لا يحج بعد العام مشرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالنداء بذلك حين نزلت إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال، وكذلك لا يمكن أهل الذمة من الإقامة بعد ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" قاله في مرض موته صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: إن الحبشة يخربون الكعبة حجرا حجرا.

                                                                                                                                                                                  قلت: لفظ الحديث نهي لا خبر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا " في حديث علي رضي الله تعالى عنه رواه الترمذي، وانفرد به فقال: حدثنا علي بن خشرم، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أشبع قال: سألت عليا رضي الله عنه بأي شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا" الحديث.

                                                                                                                                                                                  الحكم الثاني: أن لا يطوف بالبيت عريان، واحتج مالك والشافعي وأحمد في رواية بهذا فقالوا: باشتراط ستر العورة، وذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية إلى أنه لو طاف عريانا يجبر بدم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية