الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأما الغرر : فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي .

              أما الشافعي : فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخله غيره من الفقهاء ، مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان ، كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر ، وكالحب في سنبله ، فإن القول الجديد عنده : أن ذلك لا يجوز ، مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر . فخرج ذلك له قولا ، واختاره طائفة من أصحابه ، كأبي سعيد الإصطخري . وروى عنه أنه ذكر له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : نهى عن بيع الحب حتى يشتد فدل على جواز بيعه بعد اشتداده ، وإن كان في سنبله . فقال : إن صح هذا أخرجته من العام ، أو كلاما قريبا من هذا . وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع .

              [ ص: 177 ] قال ابن المنذر : جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة ، وعبيد الله [ بن الحسن ] وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي . وقال الشافعي مرة : لا يجوز ، ثم بلغه حديث ابن عمر ، فرجع عنه وقال به . قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به .

              وذكر بعض أصحابه له قولين ، وأن الجواز هو القديم ، حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة ، متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف ، حتى اشترط فيما في الذمة - كدين السلم - من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره . ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين ، والدين بمثل هذا القول . وقاس على بيع الغرر جميع العقود ، من التبرعات والمعاوضات ، فاشترط في أجرة الأجير وفدية الخلع والكتابة ، وصلح أهل الهدنة ، وجزية أهل الذمة : ما اشترطه في البيع عينا ودينا ، ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع ، وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها ، أو يشترط لها شروط أخر .

              وأما أبو حنيفة : فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين ، ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته ، ويجوز أن تكون جهالة المهر ، كجهالة مهر المثل ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار ؛ لأنه يرى وقف العقود ، لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا ، والشافعي يجوز بيع بعض ذلك ، ويحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد .

              [ ص: 178 ] وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك ، ويجوز من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي ، حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق .

              وقال الشافعي : إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا .

              فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص ، لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك .

              وأما مالك : فمذهبه أحسن المذاهب في هذا . فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة ، أو يقل غرره ، بحيث يحتمل في العقود ، حتى يجوز بيع المقاثي جملة ، وبيع المغيبات في الأرض ، كالجزر والفجل ونحو ذلك .

              وأحمد قريب منه في ذلك ، فإنه يجوز هذه الأشياء ، ويجوز - على المنصوص عنه - أن يكون المهر عبدا مطلقا ، أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل ، وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق ، كأبي الخطاب ، ومنهم من يوافق الشافعي ، فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع ، كأبي بكر عبد العزيز . ويجوز - على المنصوص عنه - في فدية الخلع أكثر من ذلك ، حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر ، كقول مالك ، مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه ، لكن المنصوص عنه : أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض ، كالجزر ونحوه إلا إذا قلع ، وقال : هذا الغرر شيء ليس يراه ، كيف يشتريه ؟ والمنصوص عنه : أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة ، ولا يباع من المقاثي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما [ ص: 179 ] بطن ، ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة ، كقول أبي حنيفة والشافعي ؛ لأن ذلك غرر ، وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها .

              ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب ، كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك كقول [ الشافعي وأبي حنيفة ] .

              وقال الشيخ أبو محمد : إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله ، كالبصل المبيع أخضر ، والكراث والفجل ، أو كان المقصود فروعه ، فالأولى جواز بيعه ؛ لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر [والحيطان] ، ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا ، وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض ؛ لأن الحكم للأغلب ، وإن تساويا لم يجز أيضا ؛ لأن الأصل اعتبار الشرط ، وإنما سقط في الأقل التابع .

              وكلام أحمد يحتمل وجهين ، فإن أبا داود قال : قلت لأحمد : بيع الجزر في الأرض ؟ قال : لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه . هذا الغرر ، شيء ليس يراه ، كيف يشتريه ؟ فعلل بعدم الرؤية .

              فقد يقال : إن لم يره كله لم يبع ، وقد يقال : رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي ، كرؤية وجه العبد .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية