الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب

الكاف في قوله: "كذلك" متعلقة بالمعنى الذي في قوله: قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ، أي: كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك، هذا قول، والذي يظهر لي أن المعنى: كما أجرينا العادة بأن الله يضل من يشاء ويهدي، لا الآيات المقترحة، فكذلك أيضا فعلنا في هذه الأمة، أرسلناك إليها بوحي لا بالآيات المقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.

وقوله تعالى: وهم يكفرون بالرحمن ، قال قتادة ، وابن جريج : نزلت في قريش حين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فكتب الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال قائلهم: نحن لا نعرف الرحمن ولا نقرأ اسمه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والذي أقول في هذا: إن "الرحمن" هنا يراد به الله تعالى وذاته، ونسب إليهم الكفر به على الإطلاق، وقصةالحديبية وقصة أمية بن خلف مع عبد الرحمن بن عوف، إنما هي عن إباية الاسم فقط، وهروب عن هذه العبارة التي لم يعرفوها إلا من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الله نبيه بالتصريح بالدين والإفصاح بالدعوة في قوله تعالى: قل هو [ ص: 205 ] ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب ، و"المتاب": المرجع كالمآب، لأن التوبة: الرجوع.

ويحتمل قوله: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية أن يكون متعلقا بقوله: وهم يكفرون بالرحمن فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل قرآن سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض، هذا تأويل الفراء وفرقة من المتأولين. وقالت فرقة: بل جواب "لو" محذوف تقديره: ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه، وقال أهل هذا التأويل: ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما: إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أزح عنا، أو سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضا قطع غراسة وحرث، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلانا وفلانا، فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله. وقالت فرقة: جواب "لو" محذوف ولكنه ليس في هذا المعنى، بل تقديره: لكان هذا القرآن الذي يصنع به هذا، وتتضمن الآية -على هذا- تعظيم القرآن، وهذا قول حسن يحرر فصاحة الآية. وقوله تعالى: بل لله الأمر جميعا يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين.

وقوله تعالى: أفلم ييأس الذين آمنوا بمعنى: يعلم، وهي لغة هوازن، قاله القاسم بن معن، وقال ابن الكلبي: هي لغة "هبيل" حي من النخع، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي:


أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم؟



قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

[ ص: 206 ] ويحتمل أن يكون "اليأس" في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: ولو أن قرآنا الآية، على التأويلين في المحذوف المقدر قال في هذه: أفلم ييأس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة، علما منهم أن لو شاء الله لهدى الناس جميعا؟

وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن "يأيس"، وقرأ ابن عباس ، وعلي بن أبي طالب ، وابن أبي مليكة، وعكرمة ، والجحدري ، وعلي بن حسين، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد : "أفلم يتبين".

ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته، وقرأ ابن مسعود ومجاهد : "ولا يزال الذين ظلموا"، ثم قال: أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم، هذا تأويل فرقة منهم الطبري ، وعزاه إلى ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى: أو تحل القارعة قريبا من دارهم، وقرأ سعيد بن جبير ، ومجاهد : "أو تحل قريبا من ديارهم" بالجمع.

[ ص: 207 ] ووعد الله -على قول ابن عباس وقوم- فتح مكة ، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة، وإن حال الكفرة هكذا هي أبدا، ووعد الله قيام الساعة، و "القارعة": الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه.

وقوله تعالى: ولقد استهزئ برسل من قبلك . هذه آية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا يضيق صدرك يا محمد بما ترى من قومك وتلقى منهم، فليس ذلك ببدع ولا نكير، قد تقدم هذا في الأمم، و "أمليت لهم": أي: مددت المدة وأطلت، والإملاء: الإمهال على جهة الاستدراج، وهو من الملاوة من الزمن، ومنه: تمليت حسن العيش.

وقوله: فكيف كان عقاب تقرير وتعجيب، في ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه الصلاة والسلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية