الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ المولى ] .

                                                                                                                                            وأما الشرط الثاني وهو المولى :

                                                                                                                                            فتقليد القضاء من جهته من فروض الكفايات ، لأنه لا يتعين في واحد من الناس ، ويدخل في فرضه كل من تكاملت فيه شروط القضاء حتى يقوم به أحدهم فيسقط فرضه عن جماعتهم .

                                                                                                                                            فإن لم تكمل شروطه في الوقت إلا في واحد تعين عليه فرض الإجابة إذا دعي إلى القضاء ، ولم يتعين عليه طلب القضاء لأن فرض التقليد على المولي دون المولى ولا يصير لتفرده في عصره واليا حتى يولى .

                                                                                                                                            ولو تكاملت شروط الإمامة في واحد انفرد بها عن غيره فقد اختلف العلماء : هل تنعقد إمامته من غير أن يعقدها له أهل العقد والحل ؟

                                                                                                                                            فذهب أكثر الفقهاء إلى أنها لا تنعقد إمامته من غير أن يعقدها له أهل العقد والحل إلا بعقد كولاية القضاء .

                                                                                                                                            وذهب آخرون من فقهاء العراق وبعض المتكلمين إلى انعقاد إمامته من غير عقد . لأن عقد أهل العقد إنما يراد لتمييز المستحق . فإذا تميز بصفته استغنى عن عقدهم .

                                                                                                                                            وفرقوا بين القضاء والإمامة . بأن القضاء نيابة خاصة يجوز صرفه عنها مع بقائه على صفته فلم يفتقر إلى عقد ومول وإن شذ بعض أهل المذهب فسوى بين الإمامة والقضاء . وجعل ولاية القضاء فيمن تفرد بشروطه منعقدة من غير عاقد كالإمامة . والجمع بينهما في الصحة أفسد ، والجمع بينهما في البطلان أصح ، لأن الولايات عقود فافتقرت إلى عاقد .

                                                                                                                                            فإن امتنع هذا المنفرد بشروط القضاء من الإجابة إليه أجبره الإمام عليه لتعين [ ص: 10 ] فرضه عليه ومن تعين عليه فرض أخذ به جبرا .

                                                                                                                                            ولاية المفولاضول مع وجود الأفضل :

                                                                                                                                            وإذا تكاملت شروط القضاء في جماعة كان الأولى بالإمام أن يقلد أفضلهم .

                                                                                                                                            فإن عدل عن الأفضل إلى المقصر انعقدت ولايته لأن الزيادة على كمال الشروط غير معتبرة .

                                                                                                                                            ولو تكاملت شروط الإمامة في جماعة وجب على أهل الاختيار من أهل العقد أن يقلدوا أفضلهم .

                                                                                                                                            وإن عدلوا عن الأفضل إلى المفضول لعذر صح العقد .

                                                                                                                                            وإن عدلوا عنه لغير عذر فقد اختلف الفقهاء في صحة إمامته فذهب جمهورهم إلى صحتها كالقضاء ، وذهب بعضهم إلى فسادها لفساد الاختيار في العدول عن الأفضل إلى المفضول .

                                                                                                                                            وفرقوا بين الإمامة والقضاء بأن القضاء نيابة خاصة فجاز أن يعمل فيها على اختيار المستنيب كالوكالة ، والإمامة ولاية عامة ولم يصح فيها تفريط أهل الاختيار لافتياتهم على غيرهم .

                                                                                                                                            تقليد طالب القضاء :

                                                                                                                                            وإذا تكافأت الجماعة في شروط القضاء وكان فيهم طالب للولاية وفيهم ممسك عنها فالأولى بالإمام أن يقلد الممسك دون الطالب . لأنه أرغب في السلامة .

                                                                                                                                            فإن امتنع لعذر لم يجبر عليه .

                                                                                                                                            وإن امتنع لغير عذر ففي جواز إجباره عليه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجبر عليه : لأنها نيابة لا يدخلها الإجبار كالوكالة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجبر عليه : لأنه مأمور بطاعة إن ترك فيها على امتناعه جاز أن يكون حال غيره مثل حاله فيفضي الأمر إلى تعطيل القضاء .

                                                                                                                                            وخالف حال الوكالة التي لا تتعلق بطاعة .

                                                                                                                                            فإن عدل الإمام عن الممسك إلى الطالب جاز وصح تقليده بعد أن اعتبر حال الطالب في طلبه .

                                                                                                                                            وله فيه خمسة أحوال ، مستحب ومحظور ومباح ومكروه ومختلف فيه .

                                                                                                                                            فأما الحال الأولى : وهو الطلب المستحب فهو أن تكون الحقوق مضاعة بجور أو عجز والأحكام فاسدة بجهل أو هوى ؛ فيقصد بطلبه حفظ الحقوق وحراسة الأحكام فهذا [ ص: 11 ] الطلب مستحب وهو به مأجور ، لأنه يقصد أمرا بمعروف ونهيا عن منكر .

                                                                                                                                            والحال الثانية : وهو الطلب المحظور : أن يقصد بطلبه انتقاما من أعداء أو تكسبا بارتشاء ، فهذا الطلب محظور يأثم به لأنه قصد به ما يأثم بفعله .

                                                                                                                                            وأما الحال الثالثة : وهو الطلب المباح فهو أن يطلبه لاستمداد رزقه أو استدفاع ضرر ، فهذا الطلب مباح لأن المقصود به مباح .

                                                                                                                                            وأما الحال الرابعة : وهو الطلب المكروه ، فهو أن يطلبه للمباهاة والاستعلاء به فهذا الطلب مكروه لأن المقصود به مكروه .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 83 ] .

                                                                                                                                            وأما الحال الخامسة : وهو الطلب المختلف فيه فهو أن يطلبه رغبة في الولاية والنظر فقد اختلف الفقهاء فيه مع اختلاف السلف قبلهم ، واختلاف أصحابنا معهم على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : يكره أن يكون له طالبا ويكره أن يجيب إليه مطلوبا ، وهو الظاهر من قول ابن عمر ومكحول وأبي قلابة ومن تخشن من الفقهاء وطلب السلامة لرواية سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين " ولأنها أمانة يتحملها ربما قصر فيها أو عجز عنها والله تعالى يقول : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال [ الآية الأحزاب : 73 ] .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : يستحب أن يكون له طالبا ، وأن يجيب إليه مطلوبا وهو الظاهر من قول عمر والحسن ومسروق ومن تساهل من الفقهاء ومال إلى التعاون على البر والتقوى لرواية أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من طلب القضاء حتى يناله فإن غلب عدله جوره فله الجنة ، وإن غلب جوره عدله فله النار " . ولأنه فرض لا يؤدى إلا بالتعاون والله تعالى يقول : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : وهو أعدلها : يكره أن يكون طالبا ويستحب أن يجيب إليه مطلوبا وهو قول أكثر المتوسطين في الأمر من الفقهاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن [ ص: 12 ] سمرة " لا تطلب الإمارة فإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها " ولأن الطلب تكلف والإجابة معونة .

                                                                                                                                            بذل المال على طلب القضاء :

                                                                                                                                            فإن بذل على طلب القضاء مالا : انقسم حال طلبه ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون واجبا لتعين فرضه عليه عند انفراده بشروط القضاء أو مستحبا له ليزيل جور غيره أو تقصيره فبذله على هذا الطلب مستحب له وقبوله منه محظور على القابل له .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون طلبه محظورا أو مكروها فبذله على هذا الطلب محظور ومكروه ، بحسب حال الطلب لامتزاجهما ، وقبوله منه أشد حظرا وتحريما .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون طلبه مباحا فيعتبر الحكم ، فإن كان بعد التقليد لم يحرم على الباذل وحرم على القابل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " هدايا الأمراء غلول " وإن كان البذل قبل التقليد حرم على الباذل والقابل جميعا لأنها من الرشا المحظورة على باذلها وقابلها لرواية ثابت عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي والرائش .

                                                                                                                                            فالراشي باذل الرشوة والمرتشي قابلها والرائش المتوسط بينهما .

                                                                                                                                            فإن كان هذا الطالب قد عدم شروط القضاء أو بعضها حرم عليه الطلب وحرم على الإمام الإجابة لفساد التقليد وتحريم النظر وصار بالطلب مجروحا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية