الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا

سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل: من أهل مكة ، وقيل عيينة بن حصن وأصحابه، والأول أصوب لأن السورة مكية، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، يريدون: عمار بن ياسر، وصهيب بن سنان، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه، وقالوا: إن ريح جبابهم تؤذينا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم، وجلس بينهم وقال: "الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه"، [ ص: 597 ] وروي أنه قال لهم: "مرحبا بالذين عاتبني فيهم ربي"، وروى سلمان أن المؤلفة قلوبهم، عيينة بن حصن، والأقرع، وذويهم قالوا ما ذكر فنزلت الآية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فالآية -على هذا- مدنية، ويشبه أن تكون الآية مكية، وفعل المؤلفة فعل قريش فرد عليهم بالآية.

و"اصبر" معناه: احبس، ومنه المصبورة التي جاء فيها الحديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الحيوان"، أي: حبسه للرمي ونحوه.

وقرأ الجمهور "بالغداة"، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما "بالغدوة"، وهي قراءة نصر بن عاصم ، ومالك بن دينار، وأبي عبد الرحمن ، والحسن ، وهي في الخط على القراءتين بالواو، فمن يقرأها "بالغداة" فيكتبها كما تكتب "الصلاة والزكوة"، وفي قراءة من قرأ: "بالغدوة" ضعف; لأن "غدوة" اسم معرف فحقه ألا تدخل عليه الألف واللام، ووجه القراءة بذلك أنهم ألحقوها ضربا من التنكير; إذ قالوا: "جئت غدوة"، يريدون: من الغدوات، فحسن دخول الألف واللام، كقولهم: الفينة، وفينة اسم معرف. [ ص: 598 ] والإشارة لقوله تعالى: يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى الصلوات الخمس، قاله ابن عمر، ومجاهد ، وإبراهيم. وقال قتادة : المراد صلاة الفجر وصلاة العصر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويدخل في الآية من يدعو في غير صلاة، ومن يجتمع لمذاكرة علم. وقد روى عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله، ومن إعطاء المال سحا".

وقرأ أبو عبد الرحمن: "بالغدو" دون هاء، وقرأ ابن أبي عبلة : "بالغدوات والعشيات" على الجمع.

وقوله تعالى: ولا تعد عيناك عنهم ، أي: لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا والملابس من الكفار. وقرأ الحسن : "ولا تعد" بضم التاء وفتح العين وشد الدال المكسورة، أي: لا تجاوزها أنت عنهم، وروي عنه: "ولا تعد" بضم التاء وسكون العين، وقوله: من أغفلنا ، قيل: إنه أراد بذلك معينا وهو عيينة بن حصن، والأقرع، قاله خباب، وقيل: إنما أراد من هذه صفته، وإنما المراد أولا كفار قريش لأن الآية مكية. وقرأ الجمهور: "أغفلنا قلبه" بنصب الباء، على معنى: جعلناه غافلا، وقرأ عمرو بن فائد، وموسى الأسواري: "أغفلنا قلبه"، على معنى: أهمل ذكرنا وتركه، قال ابن جني المعنى: من ظننا غافلين عنه، وذكر أبو عمرو الداني: إنها قراءة عمرو بن عبيد.

و "الفرط" يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلتزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، أي أمره وهواه الذي هو بسبيله، وقد فسر المتأولون بالعبارتين، أعني التضييع والإسراف، وعبر عنه خباب بالهلاك، وداود بالندامة، وابن زيد بالخلاف للحق، وهذا كله تفسير بالمعنى.

[ ص: 599 ] وقوله تعالى: وقل الحق من ربكم الآية. المعنى: وقل لهم يا محمد: هذا الحق من ربكم، أي: هذا القرآن، أو هذا الإعراض عنكم، وترك الطاعة لكم، وصبر النفس مع المؤمنين. وقرأ قعنب وأبو السمال : "وقل" بفتح اللام، قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية. وقوله: فمن شاء فليؤمن الآية، توعد وتهديد، أي: فليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غدا عند الله عز وجل. وتأولت فرقة: فمن شاء الله إيمانه فليؤمن ومن شاء الله كفره فليكفر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا متوجه، أي: فحقه الإيمان وحقه الكفر، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر إلزاما وتحريضا من حيث للإنسان - في ذلك - التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر. وقرأ الحسن ، وعيسى الثقفي: "فليؤمن .. وليكفر" بكسر اللامين.

و"أعتدنا" مأخوذ من العتاد، وهو الشيء المعد الحاضر.

و "السرادق" هو الجدار المحيط كالحجارة التي تدور وتحيط الفسطاط، وقد تكون من نوع الفسطاط أديما أو ثوبا أو نحوه، ومنه قول رؤبة:


يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود



[ ص: 600 ] ومنه قول سلامة بن جندل:


هو المولج النعمان بيتا سماؤه ...     صدور الفيول بعد بيت مسردق



وقال الزجاج : "السرادق": كل ما أحاط بالشيء.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا عندي أخص مما قال الزجاج .

واختلف في سرادق النار - فقال ابن عباس رضي الله عنهما: سرادقها حائط من نار، وقالت فرقة: سرادقها دخان يحيط بالكفار، وقوله تعالى: انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب . وقالت فرقة: الإحاطة هي في الدنيا، والسرادق: البحر، وروي هذا المعنى من طريق يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجيء قوله تعالى: أحاط بهم ، أي: بالبشر، ذكر الطبري الحديث عن يعلى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البحر هو جهنم"، وتلا هذه الآية، ثم قال: "والله لا أدخله أبدا، أو ما دمت حيا"، وروي عنه أيضا عليه الصلاة والسلام من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال: "لسرادق النار أربعة جدر كثف، عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة".

وقوله تعالى: "يغاثوا" أي يكون لهم مقام الغوث، وهذا نحو قول الشاعر:

[ ص: 601 ]

تحية بينهم ضرب وجيع



أي: القائم مقام التحية.

و "المهل"، قال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو دردي الزيت إذا انتهى حره، وقالت فرقة: هو كل مائع سخن حتى انتهى حره، وقال ابن مسعود وغيره: كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى تميع، وروي أن عبد الله بن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألوانا، ثم دعا من ببابه من أهل الكوفة فقال: ما رأيت في الدنيا شيئا أدنى شبها بالمهل من هذا، يريد: أدنى شبها بشراب أهل النار. وقالت فرقة: "المهل": الصديد والدم إذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في الكفن: "إنما هو للمهلة"، يريد: لما يسيل من الميت في قبره، ويقوى هذا بقوله تعالى: من ماء صديد الآية.

وقوله تعالى: يشوي الوجوه روي في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تقرب الشربة من الكافر، فإذا دنت منه تكرهها، فإذا دنت أكثر شوت وجهه وسقطت فيها فروة وجهه، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه". و "المرتفق": الشيء الذي يرتفق به، [ ص: 602 ] أي يطلب رفقه، و "المرتفق" الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية; لأنه في شيء واحد من معنى الرفق، على أن الطبري قد فسر الآية به، والأظهر عندي أن يكون "المرتفق" بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره. وقال مجاهد : "المرتفق": المجتمع.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة، ومنه الرفقة، وهذا كله راجع إلى الرفق، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى، والقول بين الوجه، والله المعين.

التالي السابق


الخدمات العلمية