النوع الثاني من الدلائل : أحوال الأرض ، وفيه فصلان :
الفصل الأول
في
nindex.php?page=treesubj&link=28659_19787بيان أحوال الأرض
اعلم أن لاختلاف أحوال الأرض أسبابا :
السبب الأول : اختلاف أحوالها بسبب حركة الفلك ، وهي أقسام :
القسم الأول : المواضع العديمة العرض ، وهي التي على خط الاستواء بموافقتها قطبي العالم ، تقاطع معدل النهار على زوايا قائمة ، وتقطع جميع المدارات اليومية بنصفين ، وتكون حركة الفلك دولابية ، ولم
[ ص: 172 ] يختلف هناك ليل كوكب مع نهاره ، ولم يتصور كوكب أبدي الظهور ، ولا أبدي الخفاء ، بل يكون لكل نقطة سوى القطبين طلوع وغروب ، ويمر فلك البروج بسمت الرأس في الدورة مرتين ، وذلك عند بلوغ دائرة الأفق ، وتمر الشمس بسمت الرأس مرتين في السنة ، وذلك عند بلوغها نقطتي الاعتدالين .
القسم الثاني : المواضع التي لها عرض ، فإن قطب الشمال يرتفع فيها من الأفق ، وقطب الجنوب ينحط عنه ويقطع الأفق معدل النهار فقط على نصفين ، فأما سائر المدارات فيقطعها بقسمين مختلفين ، الظاهر منهما في الشمالية أعظم من الخافي وفي الجنوبية بخلاف ذلك ، ولهذا يكون النهار في الشمالية أطول من الليل ، وفي الجنوبية بالخلاف ، وتصير الحركة ههنا حمائلية ، ولم يتفق ليل كوكب مع نهاره ، إلا ما كان في معدل النهار ، وتصير الكواكب التي بالقرب من قطب الشمال أبدية الظهور ، والتي بالقرب من قطب الجنوب أبدية الخفاء ، وتمر الشمس بسمت الرأس في نقطتين ، بعدهما عن معدل النهار إلى الشمال مثل عرض الموضع .
القسم الثالث : وهو الموضع الذي يصير ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم ، وههنا يبطل طلوع قطبي فلك البروج وغروبهما إلا أنهما يماسان الأفق ، وحينئذ يمر فلك البروج بسمت الرأس ، ولم تمر الشمس بسمت الرأس إلا في الانقلاب الصيفي .
القسم الرابع : وهو أن يزداد العرض على ذلك ، وههنا يبطل مرور فلك البروج والشمس بسمت الرأس ، ويصير القطب الشمالي من فلك البروج أبدي الظهور ، والآخر أبدي الخفاء .
القسم الخامس : أن يصير العرض مثل تمام الميل ، وههنا ينعدم غروب المنقلب الصيفي وطلوع الشتوي ، لكنهما يماسان الأفق ، وعند بلوغ الاعتدال الربيعي أفق المشرق ، والخريفي أفق المغرب يكون المنقلب الصيفي في جهة الشمال والشتوي في جهة الجنوب ، وحينئذ ينطبق فلك البروج على الأفق ، ثم يطلع من أول الجدي إلى أول السرطان دفعة ، ويغرب مقابله كذلك ، ثم تأخذ البروج الطالعة في الغروب ، والغاربة في الطلوع ، إلى أن تعود الحالة المتقدمة ، وينعدم الليل هناك في الانقلاب الصيفي ، والنهار الشتوي .
القسم السادس : أن يزداد العرض على ذلك ، فحينئذ يصير قوس من فلك البروج أبدي الظهور مما يلي المنقلب الصيفي ، بحيث يكون المنقلب في وسطها ، ومدة قطع الشمس إياها يكون نهارا ، ويصير مثلها مما يلي المنقلب الشتوي أبدي الخفاء ، ومدة قطع الشمس إياها يكون ليلا ، ويعرض هناك لبعض البروج نكوس ، فإذا وافى الجدي نصف النهار من ناحية الجنوب ، كان أول السرطان عليه من ناحية الشمال ، ونقطة الاعتدال الربيعي على أفق المشرق ، فإذن قد طلع السرطان قبل الجوزاء ، والجوزاء قبل الثور ، والثور قبل الحمل ، ثم إذا تحرك الفلك يطلع بالضرورة آخر الحوت وأوله تحت الأرض ، وكل جزء يطلع فإنه يغيب نظيره ، فالبروج التي تطلع منكوسة يغيب نظيرها كذلك .
القسم السابع : أن يصير ارتفاع القطب تسعين درجة ، فيكون هناك معدل النهار منطبقا على الأفق ، وتصير الحركة رحوية ، ويبطل الطلوع والغروب أصلا ، ويكون النصف الشمالي في فلك البروج أبدي الظهور ، والنصف الجنوبي أبدي الخفاء ، ويصير نصف السنة ليلا ونصفها نهارا .
السبب الثاني لاختلاف أحوال الأرض اختلاف أحوالها بسبب العمارة : اعلم أن خط الاستواء يقطع
[ ص: 173 ] الأرض نصفين : شمالي وجنوبي ، فإذا فرضت دائرة أخرى عظيمة مقاطعة لها على زوايا قائمة ، انقسمت كرة الأرض بهما أرباعا ، والذي وجد معمورا من الأرض أحد الربعين الشماليين مع ما فيه من الجبال والبحار والمفاوز ، ويقال والله أعلم : إن ثلاثة الأرباع ماء ، فالموضع الذي طوله تسعون درجة على خط الاستواء يسمى : قبة الأرض ، ويحكى عن
الهند أن هناك قلعة شامخة في جزيرة هي مستقر الشياطين ، فتسمى لأجلها قبة ، ثم وجد طول العمارة قريبا من نصف الدور ، وهو كالمجمع عليه ، واتفقوا على أن جعلوا ابتداءها من المغرب ، إلا أنهم اختلفوا في التعيين ، فبعضهم يأخذه من ساحل
البحر المحيط وهو
بحر أوقيانوس ، وبعضهم يأخذه من جزائر وغلة فيه تسمى
جزائر الخالدات ، زعم الأوائل أنها كانت عامرة في قديم الدهر ، وبعدها عن الساحل عشرة أجزاء ، فيلزم من هذا وقوع الاختلاف في الانتهاء أيضا ، ولم يوجد عرض العمارة إلا إلى بعد ست وستين درجة من خط الاستواء ، إلا أن
بطليموس زعم أن وراء خط الاستواء عمارة إلى بعد ست عشرة درجة ، فيكون عرض العمارة قريبا من اثنتين وثمانين درجة ، ثم قسموا هذا القدر المعمور سبع قطع مستطيلة على موازاة خط الاستواء ، وهي التي تسمى الأقاليم ، وابتداؤه من خط الاستواء ، وبعضهم يأخذ أول الأقاليم من عند قريب من ثلاث عشرة درجة من خط الاستواء ، وآخر الإقليم السابع إلى بعد خمسين درجة ولا يعد ما وراءها من الأقاليم ؛ لقلة ما وجدوا فيه من العمارة .
السبب الثالث : لاختلاف أحوال الأرض ، كون بعضها بريا وبحريا ، وسهليا وجبليا ، وصخريا ورمليا وفي غور وعلى نجد ، ويتركب بعض هذه الأقسام ببعض فتختلف أحوالها اختلافا شديدا ، وما يتعلق بهذا النوع فقد استقصيناه في تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) [البقرة : 22] ومما يتعلق بأحوال الأرض أنها كرة وقد عرفت أن امتداد الأرض فيما بين المشرق والمغرب يسمى طولا ، وامتدادها بين الشمال والجنوب يسمى عرضا ، فنقول : طول الأرض إما أن يكون مستقيما أو مقعرا أو محدبا ، والأول باطل وإلا لصار جميع وجه الأرض مضيئا دفعة واحدة عند طلوع الشمس ، ولصار جميعه مظلما دفعة واحدة عند غيبتها ، لكن ليس الأمر كذلك ؛ لأنا لما اعتبرنا من القمر خسوفا واحدا بعينه ، واعتبرنا معه حالا مضبوطا من أحواله الأربعة التي هي أول الكسوف وتمامه ، وأول انجلائه وتمامه لم يوجد ذلك في البلاد المختلفة الطول في وقت واحد ، ووجد الماضي من الليل في البلد الشرقي منها أكثر مما في البلد الغربي ، والثاني أيضا باطل وإلا لوجد الماضي من الليل في البلد الغربي أكثر منه في البلد الشرقي ؛ لأن الأول يحصل في غرب المقعر أولا ثم في شرقه ثانيا ، ولما بطل القسمان ثبت أن طول الأرض محدب ، ثم هذا المحدب إما أن يكون كريا أو عدسيا ، والثاني باطل ؛ لأنا نجد التفاوت بين أزمنة الخسوف الواحد بحسب التفاوت في أجزاء الدائرة ، حتى إن الخسوف الذي يتفق في أقصى عمارة المشرق في أول الليل يوجد في أقصى عمارة المغرب في أول النهار ، فثبت أنها كرة في الطول ، فأما عرض الأرض فإما أن يكون مسطحا أو مقعرا أو محدبا ، والأول باطل وإلا لكان السالك من الجنوب على سمت القطب لا يزداد ارتفاع القطب عليه ، ولا يظهر له من الكواكب الأبدية الظهور ما لم يكن كذلك ، لكنا بينا أن أحوالها مختلفة بحسب اختلاف عروضها ، والثاني أيضا باطل وإلا لصارت الأبدية الظهور خفية عنه على دوام توغله في ذلك القعر ، ولانتقص ارتفاع القطب ، والتوالي كاذبة على ما قدمنا في بيان المراتب السبعة الحاصلة بحسب اختلاف عروض البلدان ، وهذه الحجة على حسن تقريرها إقناعية .
[ ص: 174 ] الحجة الثانية : ظل الأرض مستدير فوجب
nindex.php?page=treesubj&link=19787_32442_28659كون الأرض مستديرة .
بيان الأول : أن انخساف القمر نفس ظل الأرض ؛ لأنه لا معنى لانخسافه إلا زوال النور عن جوهره عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ، ثم نقول : وانخساف القمر مستدير ؛ لأنا نحس بالمقدار المنخسف منه مستديرا ، وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة ؛ لأن امتداد الظل يكون على شكل الفصل المشترك بين القطعة المستضيئة بإشراق الشمس عليها ، وبين القطعة المظلمة منها ، فإذا كان الظل مستديرا وجب أن يكون ذلك الفصل المشترك الذي شكل كل الظل مثل شكله مستديرا ، فثبت أن الأرض مستديرة ، ثم إن الكلام غير مختص بجانب واحد من جوانب الأرض ؛ لأن المناظر الموجبة للكسوف تتفق في جميع أجزاء فلك البروج ، مع أن شكل الخسوف أبدا على الاستدارة ، فإن الأرض مستديرة الشكل من كل الجوانب .
الحجة الثالثة : أن الأرض طالبة للبعد من الفلك ، ومتى كان حال جميع أجزائها كذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة ؛ لأن امتداد الظل كرة ، واحتج
nindex.php?page=treesubj&link=28659_32442من قدح في كرية الأرض بأمرين :
أحدهما : أن الأرض لو كانت كرة لكان مركزها منطبقا على مركز العالم ، ولو كان كذلك لكان الماء محيطا بها من كل الجوانب ؛ لأن طبيعة الماء تقتضي طلب المركز فيلزم كون الماء محيطا بكل الأرض .
الثاني : ما نشاهد في الأرض من التلال والجبال العظيمة والأغوار المقعرة جدا .
أجابوا عن الأول بأن
nindex.php?page=treesubj&link=19787_28659العناية الإلهية اقتضت إخراج جانب من الأرض عن الماء بمنزلة جزيرة في البحر لتكون مستقرا للحيوانات ، وأيضا لا يبعد سيلان الماء من بعض جوانب الأرض إلى المواضع الغائرة منها ، وحينئذ يخرج بعض جوانب الأرض من الماء .
وعن الثاني أن هذه
nindex.php?page=treesubj&link=28659_32442_19787التضاريس لا تخرج الأرض عن كونها كرة ، قالوا : لو اتخذنا كرة من خشب ، قطرها ذراع مثلا ، ثم أثبتنا فيها أشياء بمنزلة جاروسات أو شعيرات ، وقورنا فيها كأمثالها فإنها لا تخرجها عن الكرية ، ونسبة الجبال والغيران إلى الأرض دون نسبة تلك الثابتات إلى الكرة الصغيرة .
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدَّلَائِلِ : أَحْوَالُ الْأَرْضِ ، وَفِيهِ فَصْلَانِ :
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28659_19787بَيَانِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ
اعْلَمْ أَنَّ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ أَسْبَابًا :
السَّبَبُ الْأَوَّلُ : اخْتِلَافُ أَحْوَالِهَا بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ ، وَهِيَ أَقْسَامٌ :
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : الْمَوَاضِعُ الْعَدِيمَةُ الْعَرْضِ ، وَهِيَ الَّتِي عَلَى خَطِّ الِاسْتِوَاءِ بِمُوَافَقَتِهَا قُطْبَيِ الْعَالَمِ ، تُقَاطِعُ مُعَدَّلَ النَّهَارِ عَلَى زَوَايَا قَائِمَةٍ ، وَتَقْطَعُ جَمِيعَ الْمَدَارَاتِ الْيَوْمِيَّةِ بِنِصْفَيْنِ ، وَتَكُونُ حَرَكَةُ الْفَلَكِ دُولَابِيَّةً ، وَلَمْ
[ ص: 172 ] يَخْتَلِفْ هُنَاكَ لَيْلُ كَوْكَبٍ مَعَ نَهَارِهِ ، وَلَمْ يُتَصَوَّرْ كَوْكَبٌ أَبَدِيُّ الظُّهُورِ ، وَلَا أَبَدِيُّ الْخَفَاءِ ، بَلْ يَكُونُ لِكُلِّ نُقْطَةٍ سِوَى الْقُطْبَيْنِ طُلُوعٌ وَغُرُوبٌ ، وَيَمُرُّ فَلَكُ الْبُرُوجُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ فِي الدَّوْرَةِ مَرَّتَيْنِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ بُلُوغِ دَائِرَةِ الْأُفُقِ ، وَتَمُرُّ الشَّمْسُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ بُلُوغِهَا نُقْطَتَيِ الِاعْتِدَالَيْنِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : الْمَوَاضِعُ الَّتِي لَهَا عَرْضٌ ، فَإِنَّ قُطْبَ الشَّمَالِ يَرْتَفِعُ فِيهَا مِنَ الْأُفُقِ ، وَقُطْبَ الْجَنُوبِ يَنْحَطُّ عَنْهُ وَيَقْطَعُ الْأُفُقَ مُعَدَّلَ النَّهَارِ فَقَطْ عَلَى نِصْفَيْنِ ، فَأَمَّا سَائِرُ الْمَدَارَاتِ فَيَقْطَعُهَا بِقِسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، الظَّاهِرُ مِنْهُمَا فِي الشَّمَالِيَّةِ أَعْظَمُ مِنَ الْخَافِي وَفِي الْجَنُوبِيَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا يَكُونُ النَّهَارُ فِي الشَّمَالِيَّةِ أَطْوَلَ مِنَ اللَّيْلِ ، وَفِي الْجَنُوبِيَّةِ بِالْخِلَافِ ، وَتَصِيرُ الْحَرَكَةُ هَهُنَا حَمَائِلِيَّةً ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لَيْلُ كَوْكَبٍ مَعَ نَهَارِهِ ، إِلَّا مَا كَانَ فِي مُعَدَّلِ النَّهَارِ ، وَتَصِيرُ الْكَوَاكِبُ الَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ قُطْبِ الشَّمَالِ أَبَدِيَّةَ الظُّهُورِ ، وَالَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ قُطْبِ الْجَنُوبِ أَبَدِيَّةَ الْخَفَاءِ ، وَتَمُرُّ الشَّمْسُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ فِي نُقْطَتَيْنِ ، بُعْدُهُمَا عَنْ مُعَدَّلِ النَّهَارِ إِلَى الشَّمَالِ مِثْلُ عَرْضِ الْمَوْضِعِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَصِيرُ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ فِيهِ مِثْلَ الْمَيْلِ الْأَعْظَمِ ، وَهَهُنَا يَبْطُلُ طُلُوعُ قُطْبَيْ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَغُرُوبُهُمَا إِلَّا أَنَّهُمَا يُمَاسَّانِ الْأُفُقَ ، وَحِينَئِذٍ يَمُرُّ فَلَكُ الْبُرُوجِ بِسَمْتِ الرَّأْسِ ، وَلَمْ تَمُرَّ الشَّمْسُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ إِلَّا فِي الِانْقِلَابِ الصَّيْفِيِّ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَزْدَادَ الْعَرْضُ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَهُنَا يَبْطُلُ مُرُورُ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَالشَّمْسِ بِسَمْتِ الرَّأْسِ ، وَيَصِيرُ الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ ، وَالْآخَرُ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ .
الْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يَصِيرَ الْعَرْضُ مِثْلَ تَمَامِ الْمَيْلِ ، وَهَهُنَا يَنْعَدِمُ غُرُوبُ الْمُنْقَلَبِ الصَّيْفِيِّ وَطُلُوعُ الشَّتْوِيِّ ، لَكِنَّهُمَا يَمَاسَّانِ الْأُفُقَ ، وَعِنْدَ بُلُوغِ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ أُفُقَ الْمَشْرِقِ ، وَالْخَرِيفِيِّ أُفُقَ الْمَغْرِبِ يَكُونُ الْمُنْقَلَبُ الصَّيْفِيُّ فِي جِهَةِ الشَّمَالِ وَالشَّتْوِيُّ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ ، وَحِينَئِذٍ يَنْطَبِقُ فَلَكُ الْبُرُوجِ عَلَى الْأُفُقِ ، ثُمَّ يَطْلَعُ مِنْ أَوَّلِ الْجَدْيِ إِلَى أَوَّلِ السَّرَطَانِ دُفْعَةً ، وَيَغْرُبُ مُقَابِلُهُ كَذَلِكَ ، ثُمَّ تَأْخُذُ الْبُرُوجُ الطَّالِعَةُ فِي الْغُرُوبِ ، وَالْغَارِبَةُ فِي الطُّلُوعِ ، إِلَى أَنْ تَعُودَ الْحَالَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَيَنْعَدِمُ اللَّيْلُ هُنَاكَ فِي الِانْقِلَابِ الصَّيْفِيِّ ، وَالنَّهَارِ الشَّتْوِيِّ .
الْقِسْمُ السَّادِسُ : أَنْ يَزْدَادَ الْعَرْضُ عَلَى ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْسٌ مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ مِمَّا يَلِي الْمُنْقَلَبَ الصَّيْفِيَّ ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُنْقَلَبُ فِي وَسَطِهَا ، وَمُدَّةُ قَطْعُ الشَّمْسِ إِيَّاهَا يَكُونُ نَهَارًا ، وَيَصِيرُ مِثْلُهَا مِمَّا يَلِي الْمُنْقَلَبَ الشَّتْوِيَّ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ ، وَمُدَّةُ قَطْعِ الشَّمْسِ إِيَّاهَا يَكُونُ لَيْلًا ، وَيَعْرِضُ هُنَاكَ لِبَعْضِ الْبُرُوجِ نُكُوسٌ ، فَإِذَا وَافَى الْجَدْيُ نِصْفَ النَّهَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ ، كَانَ أَوَّلُ السَّرَطَانِ عَلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ ، وَنُقْطَةُ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ ، فَإِذَنْ قَدْ طَلَعَ السَّرَطَانُ قَبْلَ الْجَوْزَاءِ ، وَالْجَوْزَاءُ قَبْلَ الثَّوْرِ ، وَالثَّوْرُ قَبْلَ الْحَمَلِ ، ثُمَّ إِذَا تَحَرَّكَ الْفَلَكُ يَطْلَعُ بِالضَّرُورَةِ آخِرُ الْحُوتِ وَأَوَّلُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَكُلُّ جُزْءٍ يَطْلُعُ فَإِنَّهُ يَغِيبُ نَظِيرُهُ ، فَالْبُرُوجُ الَّتِي تَطْلَعُ مَنْكُوسَةً يَغِيبُ نَظِيرُهَا كَذَلِكَ .
الْقِسْمُ السَّابِعُ : أَنْ يَصِيرَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ تِسْعِينَ دَرَجَةً ، فَيَكُونُ هُنَاكَ مُعَدَّلُ النَّهَارِ مُنْطَبِقًا عَلَى الْأُفُقِ ، وَتَصِيرُ الْحَرَكَةُ رَحَوِيَّةً ، وَيَبْطُلُ الطُّلُوعُ وَالْغُرُوبُ أَصْلًا ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الشَّمَالِيُّ فِي فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ ، وَالنِّصْفُ الْجَنُوبِيُّ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ ، وَيَصِيرُ نِصْفُ السَّنَةِ لَيْلًا وَنَصِفُهَا نَهَارًا .
السَّبَبُ الثَّانِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ اخْتِلَافُ أَحْوَالِهَا بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ : اعْلَمْ أَنَّ خَطَّ الِاسْتِوَاءِ يَقْطَعُ
[ ص: 173 ] الْأَرْضَ نِصْفَيْنِ : شَمَالِيٍّ وَجَنُوبِيٍّ ، فَإِذَا فَرَضْتَ دَائِرَةً أُخْرَى عَظِيمَةً مُقَاطِعَةً لَهَا عَلَى زَوَايَا قَائِمَةٍ ، انْقَسَمَتْ كُرَةُ الْأَرْضِ بِهِمَا أَرْبَاعًا ، وَالَّذِي وُجِدَ مَعْمُورًا مِنَ الْأَرْضِ أَحَدُ الرُّبْعَيْنِ الشَّمَالِيَّيْنِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْمَفَاوِزِ ، وَيُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ : إِنَّ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ مَاءٌ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي طُولُهُ تِسْعُونَ دَرَجَةً عَلَى خَطِّ الِاسْتِوَاءِ يُسَمَّى : قُبَّةَ الْأَرْضِ ، وَيُحْكَى عَنِ
الْهِنْدِ أَنَّ هُنَاكَ قَلْعَةً شَامِخَةً فِي جَزِيرَةٍ هِيَ مُسْتَقَرُّ الشَّيَاطِينِ ، فَتُسَمَّى لِأَجْلِهَا قُبَّةً ، ثُمَّ وُجِدَ طُولُ الْعِمَارَةِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ الدَّوْرِ ، وَهُوَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا ابْتِدَاءَهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ ، فَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُهُ مِنْ سَاحِلِ
الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَهُوَ
بَحْرُ أُوقْيَانُوسَ ، وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُهُ مِنْ جَزَائِرَ وَغِلَةٍ فِيهِ تُسَمَّى
جَزَائِرَ الْخَالِدَاتِ ، زَعَمَ الْأَوَائِلُ أَنَّهَا كَانَتْ عَامِرَةً فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ ، وَبُعْدُهَا عَنِ السَّاحِلِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِي الِانْتِهَاءِ أَيْضًا ، وَلَمْ يُوجَدْ عَرْضُ الْعِمَارَةِ إِلَّا إِلَى بُعْدِ سِتٍّ وَسِتِّينَ دَرَجَةً مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ، إِلَّا أَنَّ
بَطْلَيْمُوسَ زَعَمَ أَنَّ وَرَاءَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ عِمَارَةً إِلَى بُعْدِ سِتَّ عَشْرَةَ دَرَجَةً ، فَيَكُونُ عَرْضُ الْعِمَارَةِ قَرِيبًا مِنِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ دَرَجَةً ، ثُمَّ قَسَّمُوا هَذَا الْقَدْرَ الْمَعْمُورَ سَبْعَ قِطَعٍ مُسْتَطِيلَةٍ عَلَى مُوَازَاةِ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْأَقَالِيمَ ، وَابْتِدَاؤُهُ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ، وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ أَوَّلَ الْأَقَالِيمِ مِنْ عِنْدَ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دَرَجَةً مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ، وَآخِرَ الْإِقْلِيمِ السَّابِعِ إِلَى بُعْدِ خَمْسِينَ دَرَجَةً وَلَا يَعُدُّ مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْأَقَالِيمِ ؛ لِقِلَّةِ مَا وَجَدُوا فِيهِ مِنَ الْعِمَارَةِ .
السَّبَبُ الثَّالِثُ : لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ ، كَوْنُ بَعْضِهَا بَرِّيًّا وَبَحْرِيًّا ، وَسَهْلِيًّا وَجَبَلِيًّا ، وَصَخْرِيًّا وَرَمْلِيًّا وَفِي غَوْرٍ وَعَلَى نَجْدٍ ، وَيَتَرَكَّبُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِبَعْضٍ فَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا اخْتِلَافًا شَدِيدًا ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّوْعِ فَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) [الْبَقَرَةِ : 22] وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ أَنَّهَا كُرَةٌ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ امْتِدَادَ الْأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يُسَمَّى طُولًا ، وَامْتِدَادَهَا بَيْنَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ يُسَمَّى عَرْضًا ، فَنَقُولُ : طُولُ الْأَرْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيمًا أَوْ مُقَعَّرًا أَوْ مُحَدَّبًا ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَ جَمِيعُ وَجْهِ الْأَرْضِ مُضِيئًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَلَصَارَ جَمِيعُهُ مُظْلِمًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ غَيْبَتِهَا ، لَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا لَمَّا اعْتَبَرْنَا مِنَ الْقَمَرِ خُسُوفًا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ ، وَاعْتَبَرْنَا مَعَهُ حَالًا مَضْبُوطًا مِنْ أَحْوَالِهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ الْكُسُوفِ وَتَمَامُهُ ، وَأَوَّلُ انْجِلَائِهِ وَتَمَامُهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ الطُّولِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَوُجِدَ الْمَاضِي مِنَ اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ وَإِلَّا لَوُجِدَ الْمَاضِي مِنَ اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَحْصُلُ فِي غَرْبِ الْمُقَعَّرِ أَوَّلًا ثُمَّ فِي شَرْقِهِ ثَانِيًا ، وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ طُولَ الْأَرْضِ مُحَدَّبٌ ، ثُمَّ هَذَا الْمُحَدَّبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُرِيًّا أَوْ عَدَسِيًّا ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّا نَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ أَزْمِنَةِ الْخُسُوفِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ ، حَتَّى إِنَّ الْخُسُوفَ الَّذِي يَتَّفِقُ فِي أَقْصَى عِمَارَةِ الْمَشْرِقِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ يُوجَدُ فِي أَقْصَى عِمَارَةِ الْمَغْرِبِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، فَثَبَتَ أَنَّهَا كُرَةٌ فِي الطُّولِ ، فَأَمَّا عَرْضُ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَطَّحًا أَوْ مُقَعَّرًا أَوْ مُحَدَّبًا ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَكَانَ السَّالِكُ مِنَ الْجَنُوبِ عَلَى سَمْتِ الْقُطْبِ لَا يَزْدَادُ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْأَبَدِيَّةِ الظُّهُورِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَحْوَالَهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ عُرُوضِهَا ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَتِ الْأَبَدِيَّةُ الظُّهُورِ خَفِيَّةً عَنْهُ عَلَى دَوَامِ تَوَغُّلِهِ فِي ذَلِكَ الْقَعْرِ ، وَلَانْتَقَصَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ ، وَالتَّوَالِي كَاذِبَةٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي بَيَانِ الْمَرَاتِبِ السَّبْعَةِ الْحَاصِلَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ عُرُوضِ الْبُلْدَانِ ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى حُسْنِ تَقْرِيرِهَا إِقْنَاعِيَّةٌ .
[ ص: 174 ] الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : ظِلُّ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرٌ فَوَجَبَ
nindex.php?page=treesubj&link=19787_32442_28659كَوْنُ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرَةً .
بَيَانُ الْأَوَّلِ : أَنَّ انْخِسَافَ الْقَمَرِ نَفْسُ ظِلِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِانْخِسَافِهِ إِلَّا زَوَالُ النُّورِ عَنْ جَوْهَرِهِ عِنْدَ تَوَسُّطِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ ، ثُمَّ نَقُولُ : وَانْخِسَافُ الْقَمَرِ مُسْتَدِيرٌ ؛ لِأَنَّا نُحِسُّ بِالْمِقْدَارِ الْمُنْخَسِفِ مِنْهُ مُسْتَدِيرًا ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً ؛ لِأَنَّ امْتِدَادَ الظِّلِّ يَكُونُ عَلَى شَكْلِ الْفَصْلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِطْعَةِ الْمُسْتَضِيئَةِ بِإِشْرَاقِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا ، وَبَيْنَ الْقِطْعَةِ الْمُظْلِمَةِ مِنْهَا ، فَإِذَا كَانَ الظِّلُّ مُسْتَدِيرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَصْلُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي شَكَّلَ كُلَّ الظِّلِّ مِثْلَ شَكْلِهِ مُسْتَدِيرًا ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةٌ ، ثُمَّ إِنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِجَانِبٍ وَاحِدٍ مِنْ جَوَانِبِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَاظِرَ الْمُوجِبَةَ لِلْكُسُوفِ تَتَّفِقُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ فَلَكِ الْبُرُوجِ ، مَعَ أَنَّ شَكْلَ الْخُسُوفِ أَبَدًا عَلَى الِاسْتِدَارَةِ ، فَإِنَّ الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةُ الشَّكْلِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ .
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ الْأَرْضَ طَالِبَةٌ لِلْبُعْدِ مِنَ الْفَلَكِ ، وَمَتَى كَانَ حَالُ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً ؛ لِأَنَّ امْتِدَادَ الظِّلِّ كُرَةٌ ، وَاحْتَجَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28659_32442مَنْ قَدَحَ فِي كُرِيَّةِ الْأَرْضِ بِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ كُرَةً لَكَانَ مَرْكَزُهَا مُنْطَبِقًا عَلَى مَرْكَزِ الْعَالَمِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَاءُ مُحِيطًا بِهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ ؛ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ تَقْتَضِي طَلَبَ الْمَرْكَزِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمَاءِ مُحِيطًا بِكُلِّ الْأَرْضِ .
الثَّانِي : مَا نُشَاهِدُ فِي الْأَرْضِ مِنَ التِّلَالِ وَالْجِبَالِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَغْوَارِ الْمُقَعَّرَةِ جِدًّا .
أَجَابُوا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19787_28659الْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ إِخْرَاجَ جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ عَنِ الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ لِتَكُونَ مُسْتَقَرًّا لِلْحَيَوَانَاتِ ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ سَيَلَانُ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِ الْأَرْضِ إِلَى الْمَوَاضِعِ الْغَائِرَةِ مِنْهَا ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ بَعْضُ جَوَانِبِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ .
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=28659_32442_19787التَّضَارِيسَ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضَ عَنْ كَوْنِهَا كُرَةً ، قَالُوا : لَوِ اتَّخَذْنَا كُرَةً مِنْ خَشَبٍ ، قُطْرُهَا ذِرَاعٌ مَثَلًا ، ثُمَّ أَثْبَتْنَا فِيهَا أَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ جَارُوسَاتٍ أَوْ شُعَيْرَاتٍ ، وَقَوَّرْنَا فِيهَا كَأَمْثَالِهَا فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُهَا عَنِ الْكُرَيَّةِ ، وَنِسْبَةُ الْجِبَالِ وَالْغَيَرَانِ إِلَى الْأَرْضِ دُونَ نِسْبَةِ تِلْكَ الثَّابِتَاتِ إِلَى الْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ .