وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164لآيات لقوم يعقلون ) ففيه مسائل :
[ ص: 183 ] المسألة الأولى : قوله : ( لآيات ) لفظ جمع فيحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى الكل ، أي : مجموع هذه الأشياء آيات ، ويحتمل أن يكون راجعا إلى كل واحد مما تقدم ذكره ، فكأنه تعالى بين أن في كل واحد مما ذكرنا آيات وأدلة ، وتقرير ذلك من وجوه :
أحدها : أنا بينا أن كل واحد من هذه الأمور الثمانية يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى من وجوه كثيرة .
وثانيها : أن كل واحد من هذه الآيات يدل على مدلولات كثيرة ، فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود المؤثر وعلى كونه قادرا ؛ لأنه لو كان المؤثر موجبا لدام الأثر بدوامه ، فما كان يحصل التغير ، ومن حيث إنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان دلت على علم الصانع ، ومن حيث إن حدوثها اختص بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع ، ومن حيث إنها وقعت على وجه الاتساق والانتظام من غير ظهور الفساد فيها دلت على وحدانية الصانع ، على ما قال تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] .
وثالثها : أنها كما تدل على وجود الصانع وصفاته فكذلك تدل على وجوب طاعته وشكره علينا عند من يقول بوجوب شكر المنعم عقلا ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=33147_32490كثرة النعم توجب الخلوص في الشكر .
ورابعها : أن كل واحد من هذه الدلائل الثمانية أجسام عظيمة ، فهي مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ ، فذلك الجزء الذي يتقاصر الحس والوهم والخيال عن إدراكه قد حصل فيه جميع هذه الدلائل ، فإن ذلك الجزء من حيث إنه حادث ، فكان حدوثه لا محالة مختصا بوقت معين ولا بد وأن يكون مختصا بصفة معينة ، مع أنه يجوز في العقل وقوعه على خلاف هذه الأمور ، وذلك يدل على الافتقار إلى الصانع الموصوف بالصفات المذكورة ، وإذا كان كل واحد من أجزاء هذه الأجسام ، ومن صفاتها شاهدا على وجود الصانع ، لا جرم ، قال : إنها آيات . وحاصل القول أن
nindex.php?page=treesubj&link=29682_29627_28659الموجود إما قديم وإما محدث ، أما القديم فهو الله سبحانه وتعالى ، وأما المحدث فكل ما عداه ، وإذا كان في
nindex.php?page=treesubj&link=28659_29620_29627_29682كل محدث دلالة على وجود الصانع كان كل ما عداه شاهدا على وجوده مقرا بوحدانيته معترفا بلسان الحال بإلهيته ، وهذا هو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ الإسراء : 44 ] .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164لقوم يعقلون ) فإنما خص الآيات بهم ؛ لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه ، والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره ، وما يلزم من عبادته وطاعته .
واعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=33147_29485النعم على قسمين : نعم دنيوية ونعم دينية ، وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر ، فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعما دينية ، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج ، فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن فلذلك قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164لآيات لقوم يعقلون ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=14959القاضي عبد الجبار : الآية تدل على أمور :
أحدها : أنه لو كان الحق يدرك بالتقليد واتباع الآباء والجري على الإلف والعادة لما صح ذلك .
وثانيها : لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات ؛ لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات .
وثالثها : أن سائر الأجسام والأعراض وإن كانت تدل على الصانع فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر ؛ لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلفين على أوفر حظ ونصيب ، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيرا في الخواطر .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فَفِيهِ مَسَائِلُ :
[ ص: 183 ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : ( لَآيَاتٍ ) لَفْظُ جَمْعٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْكُلِّ ، أَيْ : مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ آيَاتٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا آيَاتٍ وَأَدِلَّةً ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّمَانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولَاتٍ كَثِيرَةٍ ، فَهِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ وُجِدَتْ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ وَعَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُؤَثِّرُ مُوجِبًا لَدَامَ الْأَثَرُ بِدَوَامِهِ ، فَمَا كَانَ يَحْصُلُ التَّغَيُّرُ ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ دَلَّتْ عَلَى عِلْمِ الصَّانِعِ ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ حُدُوثَهَا اخْتَصَّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ دَلَّتْ عَلَى إِرَادَةِ الصَّانِعِ ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الِاتِّسَاقِ وَالِانْتِظَامِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْفَسَادِ فِيهَا دَلَّتْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 22 ] .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهَا كَمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ فَكَذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَيْنَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=33147_32490كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ الْخُلُوصَ فِي الشُّكْرِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الثَّمَانِيَةِ أَجْسَامٌ عَظِيمَةٌ ، فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ ، فَذَلِكَ الْجُزْءُ الَّذِي يَتَقَاصَرُ الْحِسُّ وَالْوَهْمُ وَالْخَيَالُ عَنْ إِدْرَاكِهِ قَدْ حَصَلَ فِيهِ جَمِيعُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَادِثٌ ، فَكَانَ حُدُوثُهُ لَا مَحَالَةَ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى الصَّانِعِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ ، وَمِنْ صِفَاتِهَا شَاهِدًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ ، لَا جَرَمَ ، قَالَ : إِنَّهَا آيَاتٌ . وَحَاصِلُ الْقَوْلِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29682_29627_28659الْمَوْجُودَ إِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ ، أَمَّا الْقَدِيمُ فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَمَّا الْمُحْدَثُ فَكُلُّ مَا عَدَاهُ ، وَإِذَا كَانَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28659_29620_29627_29682كُلِّ مُحْدَثٍ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ كَانَ كُلُّ مَا عَدَاهُ شَاهِدًا عَلَى وُجُودِهِ مُقِرًّا بِوَحْدَانِيَّتِهِ مُعْتَرِفًا بِلِسَانِ الْحَالِ بِإِلَهِيَّتِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) [ الْإِسْرَاءِ : 44 ] .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فَإِنَّمَا خَصَّ الْآيَاتِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ وَعَدْلِهِ وَحُكْمِهِ لِيَقُومُوا بِشُكْرِهِ ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=33147_29485النِّعَمَ عَلَى قِسْمَيْنِ : نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَنِعَمٌ دِينِيَّةٌ ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي عَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ فِي الظَّاهِرِ ، فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَاقِلُ فِيهَا وَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ صَارَتْ نِعَمًا دِينِيَّةً ، لَكِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَوَاسِّ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ ، فَكَذَا الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعَمٌ دِينِيَّةٌ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْعُقُولِ وَانْفِتَاحِ بَصَرِ الْبَاطِنِ فَلِذَلِكَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14959الْقَاضِيَ عَبْدُ الْجَبَّارِ : الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ يُدْرَكُ بِالتَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْجَرْيِ عَلَى الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ .
وَثَانِيهَا : لَوْ كَانَتِ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً وَحَاصِلَةً بِالْإِلْهَامِ لَمَا صَحَّ وَصْفُ هَذِهِ الْأُمُورِ بِأَنَّهَا آيَاتٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى الْآيَاتِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ سَائِرَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَإِنْ كَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ فَهُوَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الثَّمَانِيَةَ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ كَوْنِهَا دَلَائِلَ وَبَيْنَ كَوْنِهَا نِعَمًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَوْفَرِ حَظٍّ وَنَصِيبٍ ، وَمَتَى كَانَتِ الدَّلَائِلُ كَذَلِكَ كَانَتْ أَنْجَعَ فِي الْقُلُوبِ وَأَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي الْخَوَاطِرِ .